المركز العربي للبحوث والدراسات : الثقافة المصرية في مواجهة ثقافة التطرف والعنف والإرهاب (طباعة)
الثقافة المصرية في مواجهة ثقافة التطرف والعنف والإرهاب
آخر تحديث: الأحد 13/11/2016 03:51 م نبيل عبد الفتاح
الثقافة المصرية في

يبدو لي أنها من المرات القلائل التي يطرح فيها على نحو محدد دور الثقافة في مواجهة الفكر المتطرف، والعنف، والإرهاب، وتحديداً في الحالة المصرية، وذلك لعديد الأسباب أولها: أن التركيز غالباً في الأعمال البحثية، والمقالات على الجوانب السياسية والأمنية والدينية في سياسات مواجهة الظواهر والجماعات المتطرفة، أو الجماعات التي تمارس العنف والإرهاب.

ثانيها: عدم اهتمام النخب السياسية بدور الثقافة والمثقفين في مواجهة العنف إلا قليلاً، وتركز فقط على أن يكون هذا الدور في الأطر التي تحددها هذه النخب الحاكمة لا كما يرى بعض المثقفين الكبار في هذا الصدد.

ثالثها: تركز اهتمام النظم والسلطات السياسية على دور المؤسسة الدينية الرسمية ورجال الدين في مواجهة الأيديولوجيا الدينية المتطرفة والإرهابية، ونقض آراء وفتاوى وتفسيرات منظري هذه الجماعات من وجهة نظر فقهية، وهو ما لم يؤثر كثيراً في جاذبية هذه الأيديولوجيا لدى بعض الشباب، أو بعض حواضنها الاجتماعية.

من هنا كان ولا يزال الاهتمام بدور الثقافة العالمة، أو الثقافة الشعبية يتسم بالجزئية، ولا نكاد نرى رؤية متكاملة لسياسة ثقافية تعد أحد الأهداف الرئيسية لها مواجهة الفكر المتطرف وأيديولوجيا العنف ذو السند الديني وفق برامج يتسم بالتكامل. من ناحية أخرى لا تزال المؤسسات الدينية الرسمية تقف عند حدود ردود الأفعال، والرد على بعض الفتاوى والتسويغات الفقهية الوضعية للأفعال العنيفة أو الإرهابية وسلوكيات العنف المادي والرمزي دون تعمق في دراسة هذه الجماعات، ومراجعات نوعية في بنيانها ومرجعياتها الفكرية والفقهية، وتفكيكها والرد عليها في العمق.

من هنا تبدو أهمية دراسة وتحليل دور الثقافة المصرية والمثقفين في مواجهة الأيديولوجيا الدينية العنيفة ولم يدرس على نحو معمق أو على نحو جزئي دور ثقافة ما ذات تاريخ طويل في مجال السعي نحو الحداثة والتحديث – رغم عدم اكتمال مقوماتهما- في إنتاج آليات لمقاومة ومواجهة تمدد ثقافة أخرى بها بعض التناقضات والالتباسات والغموض في فرض ذاتها على هذه الثقافة الكبرى، ومحاولة تغيير مساراتها وقيمها الرئيسة الحداثية المبتسرة، وتحويلها إلى ثقافة أخرى بها بعض القيم وأنماط السلوك، والإنتاج الرمزي وهندسة الحياة الاجتماعية واليومية، وفقاً لنمط شعائري وهندسة دينية تنتمي من الناحية التأويلية الوضعية إلى مدارس فقهية وأحادية مذهبية صارمة وفق كل جماعة دينية سياسية – مثل جماعات الأخوان المسلمين، والسلفيين، وجماعات أخرى كالجماعة الإسلامية والجهاد ... إلخ، والسؤال الذي نطرحه هنا هل الثقافة، أي ثقافة لاسيما الثقافات الكبرى في مجتمع ودولة ما، وفي إقليم مثل المنطقة العربية، لديها إمكانيات وآليات ذاتية وموضوعية على مقاومة محاولات التغيير والتحويل في بعض أو غالب مكوناتها واتجاهاتها الأساسية؟ ثم يأتي بعد ذلك دور الجماعة الثقافية أو بعض المثقفين في هذا الإطار، وهذا ما سوف نتناوله في هذه الملاحظات الوجيزة التي تحتاج إلى دراسة أكثر عمقاً فيما بعد. وسنحاول إبداء بعض الملاحظات التحليلية حول الحالة المصرية، وذلك على النحو التالي:

أولاً: مدخل: بعض الأسئلة الأولية

ثانياً: آليات الثقافة في مقاومة ثقافة التطرف والعنف.

ثالثاً: الجماعات الإسلامية الراديكالية والثقافة والمثقفين.

رابعاً: كيف واجهت الثقافة المصرية جماعات العنف والإرهاب.

خامساً: كيف واجهت الثقافة العالمة والمثقفين ثقافة التطرف والعنف والإرهاب.

أولاً- مدخل: بعض الأسئلة الأولية

الخطاب حول الثقافة عموماً يتسم بالعمومية المفرطة ويتسم في عديد الأحيان بقدر من الغموض والسيولة، بالنظر إلى تعدد تعريفات ومعان الثقافة واختلاف أنماطها وصورها ومعانيها على نحو يؤدي إلى إنتاج تفسيرات حولها تتسم بالعمومية التي تصلح لتفسير كل شيء إشكالي أو مشكلاتي أو أزماتي، ولكن إمعان النظر التحليلي يشير إلى أنها لا تفسر شيئاً في عديد الأحيان.

من ثم لابد من ضبط الاصطلاحات المستخدمة في هذه المقاربة سعياً وراء الوضوح وتخفيض التعميمات سعياً وراء تفسير لدور الثقافة المصرية في مواجهة الإرهاب والعنف والتطرف.

هناك ما يزيد على 164 تعريف للثقافة، وفي هذا الإطار "يصف مفهوم "الثقافة" الأفكار والمعتقدات والقيم الراسخة في وجدان الأفراد وفي الطريقة الكلية لحياة الجماعة التي ينتمون إليها"

ومن المعاني المتعددة للثقافة "فقد تعني الكلمة أهم الإنجازات الاثنية معينة كسيمفونيات بتهوفن أو مسرحيات شكسبير، وقد تعني الثقافة أيضاً القيم العليا للفرد أو المجموعة، أو المجتمع لثقافة الديمقراطية أو ثقافة الحب الأخوي. وقد تعني "الثقافة" أيضاً الأعمال اليومية وسلوكيات الأفراد وتصرفاتهم ومشاعرهم التي يتعلمونها في مجتمعاتهم منذ الصغر".

وكما يذهب تزيفتان تودورف إلى أنها "مجموع خصائص الحياة الاجتماعية، على طرق العيش وتفكير الجماعيَّين، على أشكال وأساليب تنظيم الوقت والفضاء، الشيء الذي يتضمن اللغة، الدين، البُنى الأسرية، طرق بناء المنازل، الأدوات، طرق تناول الطعام وارتداء الملابس. بالإضافة إلى ذلك، إن أعضاء الجماعة، مهما كانت أبعادهم، فإنهم يستبطنون هذه السمات في شكل تمثيلات. توجد الثقافة – إذا- على مستويين مترابطين بشكل وثيق: مستوى الممارسة الخاصة بجماعة ما، ومستوى الصورة التي تتركها هذه الممارسات في أذهان أعضاء الجماعة".

يذهب الناقد الأدبي رايموند وليامز Raymond Willims إلى أن "كلمة الثقافة هي إحدى الكلمات الأكثر تعقيداً في اللغة الإنجليزية، لأنها تحمل الكثير من المعاني التي تتغير كثيراً مع مروز الزمن"

من بين المعاني الحديثة للكلمة - وفق ديفيد انغليز وجون هيوسون- أنها: 1- "الثقافة العليا" والفن والحضارة 2- تهذيب النفس، 3- المنتجات الثقافة كالكليب والأفلام، 4- "الحياة الكلية لمجموعة معينة من الأفراد. ومن ثم كلمة الثقافة تشير في الوقت ذاته، إلى الثقافة العليا (High Culture) والثقافة الشعبية Mass culture، وإلى أفكار الأفراد في مجتمع معين وقيمهم، وكذلك قدرات الفرد الشخصية".

هذه التعريفات العامة هي الشائعة للثقافة، وفي هذا الإطار نستطيع القول أن ثمة عديد التعريفات أولها: الثقافة بالمعنى العام وتشمل أنماط القيم، والسلوك والدين والمعاش والطقوس والعادات والتقاليد وأنظمة الأكل والموسيقى عموماً والشعبية خصوصاً، وأنظمة المعنى السائدة .. إلخ. وفي هذا الإطار هناك الثقافة الشعبية، والثقافة العالمة، وهي الإنتاج الفكري والفلسفي والسوسيولوجي والنظري والإبداعات السردية الروائية والقصصية والشعرية، والموسيقى والإبداعات التشكيلية وإنتاج الأفكار والمعاني ... إلخ، وهي التي ينتجها المثقفين بالمعنى الضيق لمصطلح المثقف في إطار هوامش استقلاليته وعزلته النسبية، عن السياسي واليومي ومجرياته إلا من زاوية المتابعة النقدية والتحليلية لاستنباط التحليلات والتوصيفات للحالة الكونية والوطنية أو تمثل جواهر وروح اليومي ودلالته وجوانبه التي تمسُ الشرط الإنساني وعوالمه وهواجسه وأشواقه ... إلخ.

من هنا سنركز في مقاربة موقف الثقافة المصرية في مواجهة الإرهاب والعنف والتطرف على كلا المعنيين للثقافة. السؤال الأول: الذي نطرحه هل للثقافة دور في مواجهة ظواهر الإرهاب العنف والتطرف؟ السؤال الثاني: كيف واجهت الثقافة المصرية وفق المعنى العام للكلمة العنف والإرهاب؟ والسؤال الثالث: كيف واجهت الثقافة العالمة ومنتجيها التطرف والعنف والإرهاب؟

ثانياً- آليات الثقافة في مقاومة ثقافة التطرف والعنف

هل هناك دور للثقافة عموماً في مواجهة ثقافة العنف والتطرف والإرهاب؟ وهل هناك آليات داخل البنية الثقافية تسمح لها بالدفاع عن مكوناتها الأساسية وطبيعتها المدنية إزاء محاولات تديينها، أو فرض نمط من الأصولية الدينية عليها؟ يمكن القول أن العنف والتطرف قد يداخل بعض مكونات ثقافة ما، ونمط الحياة اليومية السائد، إلا أن قدرة وكفاءة وحيوية أي بنيان ثقافي يتمثل في قدرته على تهميش العنف والتطرف وإضعاف دوره السلبي والخطير في حياة المجتمع، ومن ثم يبدو سائغاً طرح هل للثقافة عموماً دور في تحليل بعض مشكلات وأسئلة المجتمع وأزماته؟

دور الثقافة محوري وهام، وذلك وفق عديد الخبراء، لأسباب عديدة:

" 1- الإرهاب والتطرف الفكري والسلوك والعنف وأشكاله هي سلوكيات ثقافية.

2-  الثقافة غالباً ما تتوسط هذه الخلافات والنزاعات والصراعات، ومن ثم لابد من دراستها وفهمها بالتفصيل".

3- إن فهم توزيع علاقات القوى في مجتمع ما يحتم علينا تحليل العوامل الثقافية لذلك المجتمع، ومساهمة هذه العوامل في زعزعة الوضع الراهن في المجتمع أو الحفاظ عليه".

التطرف والعنف والإرهاب يشكلوا ثلاثية محمولة على أنماط من الفكر الذي يدفع نحو التطرف الفكري والعقدي، والسلوكي، الذي قد يحرك دوافع نحو السلوكيات العنيفة التي قد تؤدي إلى سلوك إرهابي فردي أو جماعي، سواء أكان تعبيراً عن أيديولوجيا إرهابية فوضوية أو أيديولوجيا إرهابية ذات سند ومسوغات دينية تأويلية. من هنا نستطيع القول فيما يلي: 1- أن الثقافة في بعض مكوناتها هي جزء يكمن وراء الفكر الإرهابي والسلوك العنيف. 2- أن المقاربة والتحليل الثقافي هو مدخل لتفكيك بُنى الفكر الأيديولوجي الإرهابي ومكوناته ودوافعه وسلوكه، من قبل المثقفين ولاسيما الباحثين منهم.

3- أن الثقافة بالمعنى العام لاسيما في الحالة المصرية تنطوي على مصادر لمقاومة التطرف والعنف والإرهاب، ولديها ديناميات وآليات تؤدي إلى إعادة بناء التوازنات بين مختلف القوى وبين البنية الصلبة للثقافة، والنمط الثقافي العنيف والإرهابي.

4- الثقافة العالمة ومبدعوها، يلعبون دوراً نقدياً بارزاً في مواجهة الفكر الإرهابي والعنف والتطرف الفكري والسلوكي.

5- السياسة الثقافية الرسمية قد تؤدي إلى مواجهة التطرف والعنف والإرهاب، أو تجعله يتمدد بين بعض الفئات المستهدفة جيلياً أو اجتماعياً، لاسيما بعض أبناء الفئات الوسطى – الوسطى، والوسطى الصغيرة، والفقراء والمهمشين، كما أظهرته بعض ملفات قضايا الجماعات الإسلامية في مصر.

قبل تحديد كيف واجهت الثقافة المصرية – العليا والشعبية – ظواهر الإرهاب والعنف والتطرف، لابد من تحديد موقف الجماعات السياسية الإسلامية التي مارست الإرهاب والتطرف والعنف ذو المحمول الديني والطائفي، وذلك على النحو التالي:

أولاً: موقف الجماعات الإرهابية من الثقافة والمثقفين.

ثانيًا: موقف الثقافة الشعبية.

ثالثاً: الثقافة العالمة والمثقفين في مواجهة التطرف والعنف والإرهاب.

ثالثاً- الجماعات الإسلامية الراديكالية والثقافة والمثقفين

ترمي الأهداف السياسية والأيديولوجية العقائدية للجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية إلى تغيير طبيعة الدولة الوطنية الحديثة ما بعد الاستقلال، من خلال استخدام أشكال العنف المختلفة، وذلك من خلال إقامة دولة الخلافة الإسلامية ونواتها، أو تديين وأسلمة الدولة من خلال تغيير هندستها القانونية الوضعية الحديثة إلى نظام قانوني ديني يتأسس على نظام الشريعة وتأويلاتها الوضعية مع نمط من الهندسة العرفية التي تشتمل على التقاليد والأعراف والقيم المحافظة. من ناحية ثانية: أحداث تعديلات وتحويلات في الهندسة الاجتماعية ترمي إلى تديين المجالين العام والخاص من خلال أنظمة الزي، والصلوات، وتغيير لغة التعامل اليومي وهيمنة الديني ومفرداته ومقولاته في خطابات الحياة اليومية، وتوظيف أنماط الصلوات الخمس الجماعية خارج دور العبادة في إضفاء الوجوه الدينية لنمط المعاش وتفاعلاته، ولغة الحياة اليومية بين الجمهور في المجالين العام والخاص.

بعض الجماعات السياسية الإسلامية ترمي إلى التديين من خلال التمدد الناعم من خلال بناء الشبكات الاجتماعية حول المساجد والجمعيات الأهلية التي تقدم الخدمات الاجتماعية للفئات المعسورة اجتماعياً – من الجماهير العريضة في المدن والأرياف والفئات الوسطى الصغيرة – أو من خلال الخطابات الدينية الإخوانية والسلفية أو الراديكالية، وتوظيف الخدمات في الربط بينهما وبين التعاليم الدينية للطلاب في ورش تعليم وشرح المناهج التعليمية الرسمية، واستخدام ذلك في خلق حواضن اجتماعية عاطفة على هذه الجماعات وتشكل قواعد داعمة، ومصدر للتجنيد السياسي لمنظماتها.

ويدخل ضمن هذا الإطار الجماعات السلفية وما تقدمه من خدمات جمعياتها وكوادرها للفقراء وربطهم بخطابها الديني التأويلي الوضعي/ البشري، وإحلاله وسيطاً بين النص المقدس والسنوَّيُ وبين المؤمنين.

الجماعات الدينية الراديكالية التي تمارس العنف والإرهاب، ترمي إلى أحداث التغيير بالقوة من أعلى قمة الدولة والنظام السياسي والنخبة الحاكمة من خلال تسويغ وتبرير العنف والاغتيال، وبعضها الآخر على نمط القاعدة والسلفية الجهادية وتنظيم الدولة الإسلامية، "داعش" يرمي إلى الاستيلاء على أراضي، ومصادر للثروات لتمويل الدولة وهندسة سلطاتها الإسلامية، على أساس هرمي، من خلال ممارسة أقصى مستويات العنف الوحشي لإنتاج أقصى درجات الخوف الإنساني، لتحقيق الردع في مناطق عملها كما في سورية والعراق وليبيا، ومعها السلفية الجهادية كما في شمال أفريقيا، وفي جنوب الصحراء كما في مثال بوكو حرام وأشباهها ونظائرها.

في هذا الإطار ترمي هذه الجماعات إلى فرض هيمنة أيديولوجية دينية ورمزية على الدولة وسلطاتها وأجهزتها وهندسة دينية وضعية على المجتمع في غالب تشكيله "الطبقي" أو فئاته الاجتماعية العريضة.

من هنا نستطيع القول أن الأيديولوجيا الدينية الإسلامية الوضعية تقف في مواجهة الهندسات القانونية والاجتماعية والثقافية الحداثية أساساً، في حين أنها تقبل وتوظف التحديث المادي، ولكنها تحدث تعديلاً في وجوهه وفي توظيفاته من خلال عملية تديينه في استخداماته، ورموزه، وأسماءه.

ثمة موقف إسلاموي مضاد للحداثة وغالب أفكارها وقيمها العلمانية لدى الراديكاليين وممارسوا العنف والإرهاب الوحشي، والسلفيين، وغالبُ الجماعات الإسلامية السياسية، ويرون أنها جزء من القيم الغربية العلمانية الوافدة والتي فرضت من خلال السياسة الكولونيالية، داخل المجتمعات العربية والإسلامية، ومن ثم تشكل غزواً ثقافياً وقيمياً للثقافة الإسلامية من خلال مركزية دور الفرد ومشيئته المستقلة، وسلطة العقل الإنساني على سلطة النقل، وسيطرة النسبي على المطلق، والوضعي على الميتاوضعي والانفصال فيما بينهما، والحريات الفردية والفصل بين الديني والسياسي إلى آخر الأقانيم الحداثية. من هنا تقف ثقافة جماعات ومنظمات العنف والتطرف والإرهاب ذات الوجوه والمحمولات والأسانيد الدينية ضد ثقافة الحداثة، ونمط الحياة العصرية الذي ساد المجتمعات العربية وتأسست على بعض مفاهيمها وقيمها العليا الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال. من ثم شكل هدف تحويل الثقافة الحداثية المبتسرة ونمط الحياة الحدثية إلى ثقافة دينية تعتمد على سلطة الموروث الديني الفقهي الوضعي وتشكيلاته ومحمولاته من العادات والتقاليد والقيم المحافظة والمتشددة كقاعدة أو بنية ثقافية أساسية يقوم عليها المشروع السياسي للدولة الدينية ودولة الخلافة الإسلامية.

2- أدت سياسة الإخوان المسلمين والسلفيين لتديين المجالين العام والخاص واستراتيجيات الأسلمة من أسفل، والأسلمة من الوسط، والأسلمة من أعلى، واستخدام العنف ضد الآخر الديني المسيحي، والآخر الإسلامي المذهبي – الموقف من الشيعة الاثني عشرية – إلى التحريض على عمليات العنف الديني ضد المسيحيين / الأقباط، ودور عبادتهم وممتلكاتهم ومن ثم إلى حالة انقسامية رأسية ذات وجوه طائفية، وهو هدف رئيسي لدى هذه الجماعات من أجل كسر نمط الحياة المشترك وثقافته العصرية منذ بناء الدولة والمدن الحديثة في مصر وحتى اللحظة الراهنة، وإنتاج انقسامات رأسية في هيكل المجتمع المصري على أساس الانتماء الديني، وامتد ذلك إلى الانتماء المذهبي للشيعة الأثنى عشرية من قلة قليلة من المصريين. هذه الاستراتيجية أدت إلى إنتاج فجوات ثقافية، وتآكل في بنية الموحدات المشتركة الرمزية والسوسيولوجية والثقافية. استراتيجية هدفت إلى فرض الهيمنة الرمزية والدينية الفقهية والتأويلية الموروثة على المكون الإسلامي المصري على أساس ديني، ومن ثم يشكل التمايز والفجوات بينه وبين المسيحيين كسر لوحدة الثقافة المصرية الحدثية على تعدد منابعها وروافدها، وهو ما ييسر عمليات تمدد وسطوة الثقافة الدينية الإسلامية للجماعات الراديكالية والسلفية، ويساهم بفعالية في بناء الدولة الدينية على أنقاض الدولة الوطنية الحديثة.

3- رُهَّاب المثقفين الحداثيين والعلمانيين وغالبهم متدين يشكل موقف منظري الحركة الإسلامية السياسية والسلفية وجماعات العنف والإرهاب داخلها، ومن ثم كراهية حضورهم وأدوارهم في إنتاج وإبداع الثقافة العليا، والعقل والفكر النقدي ومقارباته للظواهر والإشكاليات والقيم والسلوك والأفكار الموروثة، ومن ثم يشكلون في إدراك العقل النقلي والسلفي والإرهابي أحد مصادر إثارة القلق والتوتر والشكوك والغليان الاجتماعي، ويمثل خطابهم النقدي تهديداً للخطاب النقلي ولملاك الحقائق المطلقة –وفق مراد وهبه- الوضعية حول الدين، وأنهم علمانيون وخطرون على الفكرة الإسلامية الجامعة ومشروع الدولة الإسلامية. من ناحية أخرى رأت هذه الجماعات من السهل استخدام آلية التكفير الديني بإفراط ودون شروطه ومعاييره في مواجهة الإنتاج الفكري والإبداعي السردي، والفني للمثقفين وإنتاج فجوة واسعة بينهم، وبين فئات اجتماعية عريضة بدعوى "علمانيتهم" و"إلحادهم"، والربط بين "العلمانية" و"الإلحاد" ليسهل اتساع الفجوات بينهم وبين الجمهور وإفقادهم تأثيرهم الاجتماعي والفكري والفني.

4- سياسة الاغتيالات من بعض الحركيين الإسلاميين لبعض الكتاب والصحفيين كما حدث في محاولات اغتيال نجيب محفوظ، ومكرم محمد أحمد، واغتيال فرج فوده. ورمت هذه المحاولات إلى إشاعة الخوف وسط الجماعة الثقافية بمختلف شرائحها، وفرض قانون الصمت على غالبهم وعدم تعرضهم للأيديولوجيا الدينية، وعنفها المادي والرمزي.

5- اللجوء إلى آلية دعاوى الحسبة ضد الأدباء والشعراء والكتاب والفنانين سواء من خلال رفع الدعاوى المباشرة، وعند إلغاءها تم اللجوء ولا يزال إلى تقديم الشكاوى إلى النيابة العامة، وذلك لمطاردة المثقفين والمبدعين والأدباء والفنانين وأعمالهم لحظرها ومحاولة حبسهم، وفق قانون العقوبات وبعض نصوصه، على نحو أدى ولا يزال إلى فرض بعض من الخوف قسراً على الجماعة الثقافية.

6- الجماعات الإسلامية الراديكالية والسلفية الجهادية وجماعات العنف لديها موقف عدائي إزاء الفنون لاسيما السينما والمسرح والغناء لاسيما العاطفي والرومانتيكي والشعبي ببعض ما يحمله من عبارات عامية قد يجنح بعضها إلى السوقية والابتذال وهو ما يبرز من بعض كتاباتهم وفتاويهم، فضلاً عن قيامهم بفض بعض حفلات الغناء في الجامعات المصرية بالقوة، وإقامة الصلوات في قاعات المسرح المعدة لاستقبال الطلاب والفرق الموسيقية والمطربين والمطربات كما كان يحدث في بعض كليات الجامعات المصرية خلال العقود الماضية.

7- رفض نظام الزي الغربي في ملابس النساء، واستبداله بأشكال من الزي ذات الوجه الديني مع الحجاب والنقاب للمرأة المسلمة، من قبيل الجلباب أو الإسدال ذو اللون الأسود على نحو ما يسود بعض دول الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية.

8- إصدار الفتاوى التي تحرم الأعمال النحتية.

9- مطاردة دواوين الشعر والقصائد والروايات والقصص، وفحص بعضها من منظور ديني أو أخلاقي، واعتبار البناء السردي للرواية أو القصة هو الواقع ومن ثم محاكمة السارد دينياً وأخلاقياً. ومن أبرز الأمثلة على ذلك تظاهرات طلبة وطالبات الأزهر الإخوانيات – وبعض السلفيين – في أزمة الروايات الثلاث الشهيرة، وأعمال أخرى بدعوى إشاعة الفسق والفجور أو انتهاك المحرم الديني أو الأخلاقي، دون تمييز بين الواقع التخيلي والواقع الفعلي في الحياة، واستقلالية العمل الأدبي عن الواقع حتى ولو تماس معه.

رابعاً- كيف واجهة الثقافة المصرية جماعات العنف والإرهاب؟

نقصد بالثقافة في هذا الإطار المعنى العام، وداخله الثقافة الشعبية. يمكن القول أن التراكمات التاريخية للثقافة المصرية وطبقاتها المختلفة تمتلك بعض فوائض القوة والحيوية والفاعلية التي تمكنها من التصدي لبعض القيم والرموز والمعاني والرؤى والأفكار التي تتناقض مع البنية الصلبة لها، ومع بعض الإنجازات التي حققتها تاريخياً لاسيما منذ مطالع النهضة المصرية في نهاية القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، وهو ميراثها الحداثي وإنجازها التحديثي السلطوي حول ثقافة الدولة / الأمة الحديثة، وتقاليدها المؤسسية، والقيم الحداثية في نمط الحياة اليومية، وفي رؤى الذات الجماعية والفردية، ورؤى العالم والإقليم العربي وما يجاوره وأنظمة المعنى، وفي الموقف من المرأة، وفي الهوية الوطنية ذات المصادر المتعددة وهويات مكوناتها الداخلية، وتفاعلاتها في إطار الهوية الجامعة وانفتاحها على إقليمها وعالمها.

ساهم ميراث الثقافة المصرية وعافيتها وحيويتها حتى في ظل أكثر الظروف قسوة، وحتى في لحظات هزيمة يونيو 1967، بقوة في دعم التماسك والتلاحم الوطني، وتعبئة الجموع الشعبية والفئات الوسطى على اختلافها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، والتصدي له وتحقيق هدف استعادة الأراضي المحتلة بدعم من شقيقاتها العربية، ومنها الجزائر.

في هذا الإطار لعبت الثقافة المصرية بالمعنى العام، والثقافة الشعبية دوراً مهماً في مواجهة جماعات التطرف والعنف والإرهاب، وذلك على النحو التالي:

1- قوة الثقافة اللغوية العامية وذاكرتها القوية وحركيتها، وفي التعبيرات المدنية ومجازاتها والأمثولات الشعبية، والحكايات والأساطير، وسيولة اللغة العامية ولهجاتها المناطقية على تعددها، وعدم قدرة الجماعات الدينية على اختلافها على تديين للغة خطاب الحياة اليومية لأنها تنطوي على مروياتها وحكاياتها الدينية، وبعض المفردات حول الإيمان الديني الناعم والاعتدالي والساخر أحياناً من التنطع والغلو، وتحمل اللغة المحكية على سرديات شفاهية للسير الشعبية للأبطال الدينية – في الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية -. إنها لغة عامية عفية ومتطورة وعصية على التطويع من المدني وحيويته إلى الديني وبعضُ محمولاته وأوصافه وتعبيراته المحافظة والصارمة، والتي تعكس نمط من التدين البدوي أو الصحراوي.

ثمة ميزة كبرى للعامية المصرية هو طابعها الساخر وميلها الفكاهي وإطلاق النكات. يقول دوستويفسكي في رواية المقامر "السخرية هي الملاذ الأخير لشعب متواضع وبسيط" ونستطيع أن نقول أن السخرية هي الأداة الأساسية للشعب المصري في مواجهة نوازل الحياة والطبيعة ومقادير السياسة وتناقضاتها وغلواءها، وهي أداة السخرية من الذات ومن الآخرين، ومن الحكام ومن رجال الدين، أو من يرتدون مسوحه لبناء قوة ومكانة رمزية لهم في الحياة، ومن يرمون إلى تحولهم إلى سلطة على إيمان وضمائر الجمهور.

2- نظام التدين الشعبي يقوم على التوازنات بين الديني وتأويلاته وبين المدني وتناقضاتهما من خلال استخدام آليات التسويغ والتبرير، والمواءمات بين التحريمات والتسامح في الالتفاف عليها، وفي البحث عن أبواب للتسامح في تبرير الخروج عليها. في هذا الإطار استخدام منطق الحساب الجاري في الموازنة بين الآثام والذنوب والثواب، وأن الحسنة بمفهومها الواسع بعشرة أمثالها، والخير يُذهبُ بالشرور وأن الله سبحانه وتعالى غفور رحيم .. إلخ.

3- تدخل ثقافة الدولة المصرية الحدثية – ميراثها وقيمها وسلوكها وقواعد عملها – في المعنى العام للثقافة، وهي متمددة وساكنة وراسخة في الوعي شبه الجماعي والوعي السياسي للمصريين أيًا كان انتماءهم الديني والمذهبي والاجتماعي والسياسي والمناطقى. هي ثقافة حديقة وحدايثة مبتسرة وتشكل مركز التماسك الجماعي للمصريين جميعاً. ونستطيع القول أن الإيمان بالدولة في الوعي الجمعي الاجتماعي تشكل ديانة وضعية حداثية مشتركة للمصريين المسلمين والمسيحيين.

4- استمرارية دور وفوائض الحركة القومية المصرية في مواجهة الاستعمار الغربي في المرحلة شبه الليبرالية، وإزاء حركات التحرر الوطني في ظل الناصرية. لا شك أن طلائع الحركة الوطنية ربطت بين التحرر من الاستعمار والاستقلال وبين الدستور الحديث، وهذه الفوائض لا تزال بها بعض من العافية في الإدراك الجمعي والوعي الاجتماعي إزاء الأفكار الدينية الجامعة كفكرة الجامعة الإسلامية أي الخلافة وطروحاتها التي تتناقض مع الفكرة القومية المصرية وميراث الحركة القومية ومفهوم الأمة، والدولة الحديثة.

5- تماسك الجماعة الثقافية، واستعصاء نواتها الصلبة على التحول من الثقافة النقدية إلى الثقافة الدينية النقلية والوضعية.

6- قوة المجتمع المصري وإرثه المدني وذلك على الرغم من تمدد ظاهرة ترييف المدن وتآكل ثقافة المدينة إلا أن ميراثها وتقاليدها لا تزال لديها قدرة على المقاومة للترييف ونمط التدين الديني الشعبي، أو التمدد الأصولي داخل بعض شرائحه.

7- هيمنة اللغة السياسية المدنية / المهجنة بالديني لدى النخبة المصرية أعطتها القدرة على مواجهة بعض الخطاب التكفيري والإرهابي.

8- أحد مراكز المقاومة الثقافية المصرية لثقافة التطرف والعنف والإرهاب يكمن في أن البُنى الفكرية الحداثية، والقيم، وبعض أنماط السلوك المنسوبة للحداثة والانفتاح، استعيرت من المركز الأوروبي، ولكنها هجينة وأسست على بعض القيم والمواريث الدينية في ضوء عملية اجتهادية، وذلك لتخفيض التوترات القيمية، وعنف الأفكار الحداثية المستعارة في عملية استزراعها في العقل والثقافة المصرية.

من ناحية أخرى كان التنظيم المعماري والحضري بدأ مع حملة بونابرت في القاهرة وأحياءها التاريخية، ونمطها المعماري المفتوح على داخله، والمحافظ على قيمة الستر والأسرة والعائلة داخل البيت، والأبواب المغلقة والشبابيك المفتوحة على فسحة البيت، وذات الأغطية الخشبية. قاموا بإعطاء المنازل أرقام، وفتح أبواب الحارات لتنفتح على الآخرين، ووضع أنوار على أبواب الحارات والبيوت على نحو ساهم في كسر العالم التقليدي وحواجزه ليفتح على أفق أوسع، وهو ما حمل معه دلالة رمزية كبيرة.

خامساً- كيف واجهت الثقافة العالمة والمثقفين ثقافة التطرف والعنف والإرهاب

تلعب الجماعة الثقافة المصرية، ورموزها، وطلائعها المنتجة للثقافة العالمة وبالمعنى الواسع للإنتاج الثقافي، دوراً مهماً، ويعود ذلك إلى تقاليدها وقوتها الرمزية، وأن المثقف الحديث كان أحد بناة الدولة الحديثة ولعب دوراً تاريخياً في تطور السياسة ومفاهيمها، وفي بناء مؤسسات الدولة، وفي إطار الحركة القومية، وفي نقد السلطة السياسية وغيرها من السلطات الأخرى الدينية والتقاليد والعادات البالية.

ثمة دور هام للمثقف –منتج الثقافة العليا- بل والمثقف بالمعنى العام للكلمة السائد مصرياً وعربياً- في الدفاع عن الاستقلال الوطني، وفي الحوار حول نمازج التنمية، ناهيك عن دوره التبشيري والطليعي بالأفكار الكبرى والجديدة في دوائر الثقافات العالمية، والثقافة الكونية.

وقف المثقف المصري وطلائعه –على قلتها- موقفاً جسوراً في مواجهة الأفكار المتطرفة أيا كانت مصادرها، كالفاشية والنازية، والشمولية السياسية والتسلطية السياسية وثقافاتها التي ارتبطت بنظام يوليو وتطوراته ودفع بعضهم الثمن باهظًا في مقابل مواقفه سواء بالسجن أو الاعتقال أو الإقصاء والاستبعاد.

من هنا شكلت المقاربات والتحليلات النقدية ونسبية الحقاق، وسلطة العقل الناقد مدخلاً لمواجهة الفكر الديني الوضعي المتطرف، وأفكار الشمولية الكليانية وزعم منظروه ومرجوه الإيديولوجيين أنهم يملكون الحقائق المطلقة من خلال نقد البنىُ الإيديولوجية ومرجعياتها للجماعات الإسلامية ومنظروها وعلى رأسهم حسن البنا وسيد قطب وشكري مصطفي وعمر عبد الرحمن حتى منظر داعش أبو بكر الناجي وخطاب الوحشية الداعشية.

في هذا الإطار شكلت الدراسات البحثية والتحليلية والتنظيمية للجماعات الإسلامية دوراً مهماً مصرياً وعربياً ودولياً، إذ شكلت كتابات المثقفين - وبعضهم من ألمع الباحثين والخبراء المشهود لهم بالرصانة والعمق في الدرس الأكاديمي- المراجع الأساسية في مجال الدرس الأكاديمي العربي والغربي، والبحث في هذا الإطار.

لم يقتصر دور المثقفين على الكتابة والتأليف، وإنما كأطراف محاوره في البرامج المرئية على القنوات التليفزيونية والفضائية مع الأطراف الداعمة والمساندة لفكر الجماعات الإسلامية على اختلاف توجهاتها وتنوعها الإيديولوجي ومشتركاتها.

من ناحية ثانية: اعتمدت الدولة في سياسة المواجهة للجماعات المتطرفة والإرهابية على دور المثقفين النقدي على الرغم من بعض التوترات بين السلطة السياسية من السادات إلى مبارك، وما بعد 25 يناير 2011 وأحداث 30 يونيو 2013، على الدور الذى يلعبوه في نقد أطروحات هذه الجماعات وسلوكها المتطرف والعنيف والإرهابي.

يمكن القول أن قلة قليلة من المثقفين شكلوا أحد القوى الفاعلة في نقد مرحلة حكم جماعة الإخوان، والسلفيين في أعقاب 25 يناير 2011. وفي طرح التجارب السياسية المقارنة في مجال الانتقال السياسي من الشمولية إلى التطور الديمقراطي في دول أوروبا الشرقية بعد تفكك الإمبراطورية السوفيتية السابقة، وبعض تجارب أمريكا اللاتينية، وفي جنوب أفريقيا.

من ناحية ثالثة: الدور المتميز الذى لعبه بعض المثقفين المصريين في دعم الأزهر المؤسسة الدينية العريقة في مواجهة محاولات جماعة الإخوان والسلفيين في تغيير قيادته الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب، من خلال الضغط الطلابي المكثف عبر التظاهرات داخل الجامعة، والمسيرات الصاخبة إلى مقر المشيخة للمطالبة بعزله.

بادر أحد المثقفين المصريين البارزين –جمال الغيطاني- بمبادرة مع الشيخ الأكبر أحمد الطيب بدعوة عدد من المثقفين المصريين للحوار مع كبار علماء الأزهر وخرج عن هذه الحوارات ثلاثة وثائق هامة حول الدولة الديمقراطية الدستورية الحديثة، ودعم الثورات العربية، والحريات الأساسية.

استطاع طرفي الحوار –المثقفين وكبار العلماء- التوصل إلى بعض التوافقات حول القضايا الأساسية، طبيعة الدولة المصرية وطابعها الحديث والقومي الديمقراطي، ودعم أهداف الثورات العربية، والحريات العامة والشخصية وفق المنطق والفلسفة السياسية الحداثية وعدم تناقضها مع نظام القيم الإسلامية.

من ناحية رابعة: قام مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بإعداد دراسات حول القوى المحجوبة عن الشرعية القانونية من قبل النظام السياسي والقانوني المصري وعلى رأسها الجماعات الإسلامية السياسية جذورها وواقعها وتنظيمها وأيديولوجياتها وتطوراتها في التقرير الاستراتيجي العربي. ثم قام بإصدار أول تقريرين عن الحالة الدينية في مصر لأول مرة مصريا وعربياً، وشكل مرجعاًً أساسياً ليس للإسلام السياسي فقط، وإنما المجالات الإسلامية والمسيحية واليهودية المصرية، والمؤسسات الدينية، والخطابات على اختلافها، والجمعيات الدينية الأهلية، هذا العمل البحثي قاده بعض المثقفين في سعيهم للدرس الموضوعي المؤسس على بنية معلوماتية دقيقة في إطار مقاربة نقدية.

من ناحية خامسة: شارك المثقفون في أنشطة وزارة الثقافة والهيئة العامة للكتاب في الحوار مع بعض الإخوان المسلمين، ورجال الدين حول الفكر الديني ومواقفه من المشكلات والقضايا المعاصرة.

من ناحية سادسة: أصدرت هيئة الكتاب سلسلة كتب المواجهة للأفكار المتطرفة والتكفيرية.

نستطيع القول أن الثقافة المصرية استطاعت أن تساهم على نحو كبير في مقاومة ثقافة العنف والتطرف والإرهاب، على الرغم من تمدد بعض عناصر الأخيرة بين بعض الشباب، الذين تم تجنيدهم من قبل الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية والسلفيين، إلا أن الكتل الجيلية والاجتماعية الشابة لم تنخرط في هذه الجماعات أو تنتمى لأفكارها، على الرغم من تدين غالبيتهم، وذلك لعديد الأسباب وعلى رأسها فوائض ديناميكية الثقافية المصرية الحديثة، وثقافة التدين الاعتدالي الذى يربط بين الدين والحياة ويراوغ فيما بينهما، وفي احتواء الذنوب والآثام بالأعمال الخيرة والحسنات، أو في إيجاد تبريرات لانتهاك الديني وبعض قيمه وقواعده.

من ناحية سابعة: لعبت الفنون وعلى رأسها الموسيقى والغناء والرقص الشعبي وطقوس الأفراح، والميلاد، والزواج والموالد.. الخ، دورها في مقاومة الهندسة الدينية لنمط الحياة اليومية، وطقوسها ووقائعها المتغيرة التي حاولت هذه الجماعات الدينية فرضه على المصريين.

من ناحية ثامنة: استطاعت المرأة المصرية أن تقاوم صراحة نظام الزى الديني الوافد من إقليم النفط العربي–ونظمه القيمية ونمط تدينه الصحراوي-، وذلك بإدخاله ضمن نظام الموضة من خلال تغير فصول السنة، والألوان، والتصميمات المتجددة للحجاب، والرسومات لغطاء الرأس، والزى.

أن الإرث الموسيقى والغنائي المصري الحديث، والفلكلوري الشعبي، وفن التلاوة رفيعة المستوى والمقام كلها مكونات حيوية وقفت إزاء محاولة تجريف الوجدان والذاكرة والذائقة الموسيقية الحديثة والشعبية للمصريين في كافة مناطق الدولة المصرية.

صحيح القول أن الثقافة وحدها لم تكن هي أداة المقاومة الوحيدة بالطبع إلا أنها لعبت دوراً مهماً وذاتياً في مقاومة العنف والإرهاب والتطرف من خلال آلياتها سابقة الذكر.

من ناحية تاسعة: لعب بعض المثقفين البارزين دوراً بارزاً في نقد الأبنية الإيديولوجية والتأويلية الوضعية للجماعات الأصولية المتطرفة والتي تحرض على العنف السلوكي والخطابي والرمزي.