يشكل التحليل الأيقونولوجي ارتباطًا ثلاثيًا بين
التاريخ، والفن، وأوضاع المجتمع؛ فالتاريخ يرصد الوقائع رصدًا زمنيًا تسلسلياً، في
حين يسجل الفن لحظة من التاريخ مقرونة بالمكان والحدث بشكل يجعل الفن سجلاً
للتاريخ، من خلال وصف الفن للثنائيات المتعارضة: الحزن/ الفرح، الخوف/ الأمن،
اليأس/ الأمل...الخ، التي ما أن تظهر أحدي هاتين الصفتين المتعارضتين إلا واختفت
الصفة الأخرى. أما أوضاع المجتمع يتم تجسيدها بشكل مكتوب أو فني: مرسوم أو مصور،
حيث يتسق الفن مع أوضاع المجتمع أو التاريخ أو يتنافر معهما، فهو يشكل الشق الآخر
من التوثيق الخاص بالأحداث.
ونظراً لأن صور قناة السويس ترصد تاريخ مصر في حقب
مختلفة، وكانت شاهدة علي التحولات السياسية بداية من حفرها في عهد إسماعيل وصولاً
إلي احتلال مصر بسببها، مروراً بالعدوان الثلاثي، وتحرير سيناء وصولاً إلي كونها
الأمل الاقتصادي بعد ثورة 25 يناير. لذا، فإن مشكلة الدراسة المهمة التي أجراها الباحث الدكتور حلمي محمود محسب رئيس قسم الإعلام
الإلكتروني بكلية الإعلام جامعة جنوب الوادي
عكفت على التحليل الأيقونولوجي لصور قناة السويس منذ إسماعيل حتي السيسي.
أولاً- أهمية الدراسة وأهدافها
تأتي أهمية الدراسة من خلال عدد من المحددات هى تطبيق
منهجية جديدة في الدراسات الإعلامية تعتمد علي التحليل الأيقونولوجي الذي يفتت
الصور إلي عناصرها الأولي ويعيد تركيبها وصولاً إلي المعنى الكامن خلف الصور، والتركيز
علي الدراسات البينية التاريخية والثقافية والفنية والإعلامية في رصد الظواهر بشكل
تكاملي، ووضع الدراسات البصرية والتصويرية في بؤرة اهتمام الدراسات المصرية شأنها
شأن الدراسات الغربية من خلال التركيز علي السياقية البصرية Visual contextual. بوصفها
موازية للسياقية النصية.
واستهدفت الدراسة رصد علاقة تناغم أو تنافر الأحداث
التاريخية مع الصور وبخاصة المرسوم منها، والتعرف علي الدلالات الأيقونية المصاحية
للأحداث التي مر بها قناة السويس منذ حفرها في عهد إسماعيل حتي قناة السويس
الموازية في عهد السيسي، ورصد العلاقة التاريخية بين الصور والرسوم وتأثرها
بالتوجهات السياسية وظروف المجتمع.
ثانيًا- منهجية التحليل
تنتمي هذه الدراسة إلي الدراسات الوصفية القائمة على
النهج الكيفي، حيث تأخذ الوصف طريقاً للوصول إلى السببية وراء الأحداث من خلال رصد
السياقات التاريخية المحيطة بالموضوع ومقارنتها بالسياق البصري، لذا تأخذ الدراسة
المنهج المسحي نهجاً لها لمسح الصور منذ حفر قناة السويس في عهد إسماعيل وصولاً إلى
قناة السويس 2015. بالاعتماد علي التحليل الأيقونولوجي.
وتنقسم مستويات تجريد المعني في الصورة وفقاً للعلامة (الصورة
المراد تحليلها) إلي الدال Signifier الذي تدل عليه الصورة مثل
شجرة، والمدلول signified الخاص
بتمثيلها في ذهن المشاهد، وصولاً إلي الدلالة الكاملة وارتباطها بمعاني أخرى، وفقاً
لهذه المستويات التجريدية تأخذ الصورة ثلاث طبقات layers تسهم مجتمعة في تشكيل المعنى
وهي :
الطبقة الأولي:
المادة الأولية للموضوع (التي تمثل المرحلة ما قبل الإيقونية)
ويتم وصف المادة المراد تحليلها إلى مكوناتها الأولية مثل: الألوان والأشكال،
بالإضافة إلي المكونات الطبيعية(مثل: الحيوانات، الرجل/المرأة، الكرسي) التي تحتوي
عليها الصورة.
الطبقة الثانية:
المادة الثانوية Secondary أو التقليدية
Conventional للموضوع (التي تمثل المرحلة الأيقونوجرافية) وتشمل تحليل تكوين الدوافع أو
الصور (مثل: الحكايات أو الرموز الموجودة في الصورة) حيث أن الفأس في الصورة تدل
علي العمل، والشمس تدل علي الحرارة والثلج يدل علي البرودة.
الطبقة الثالثة:
المعني الجوهري أو المضمون (الأيقونولوجي)
ويقصد به تحليل المعنى أو المضمون أو العمل الفني من خلال المبادئ المؤسسة للأمة
أو العصر أو الطبقة أو الدين أو القناعات الفلسفية، ويعني هذا أن المعنى الكامل
يمكن أن يفهم فقط عندما يتم معرفة القدرات الفنية والشبكات الثقافية للمعنى
والسياق الخطابي Discursive Context المكونة له.
ثالثًا- عينة الدراسة
يتناول البعد الموضوعي تحليل الصور التي تتناول الأحداث
التي مرت بها قناة السويس بداية من عام 1854 الخاص بامتياز حفر القناة، حتى افتتاح
قناة السويس الجديدة في 6 أغسطس 2015، فقد شهدت هذه الفترة الطويلة أحداثاً متنوعة منها: حفر
القناة، واحتفالية الافتتاح، مروراً باحتلال مصر، ثم تحريرها، ونسف تمثال ديليسبس
عقب العدوان الثلاثي، وحرب أكتوبر1973، وصولاً إلي بناء قناة السويس الجديدة، وتم أخذ
عينة الصور الخاصة بالأحداث سالفة الذكر من موقع صور جوجل، ويرجع السبب في اختياره
إلي شموليته، وكونه أكثر المواقع استخداماً في العالم.
وقد استخدمت
الدراسة كلمات مفتاحية داخل محرك بحث صور جوجل، هي : حفر قناة السويس في عهد
إسماعيل، واحتفالية قناة السويس في عهد إسماعيل، عبد الناصر وقناة السويس، العدوان
الثلاثي، نسف تمثال ديليسبس، السادات وقناة السويس، عبور قناة السويس، قناة السويس
الجديدة. احتفالية قناة السويس الجديدة، ونظراً لكثرة الصور فقد تم تحديد عشرة صور
لتحليلها أيقونولوجياً.
رابعًا- نتائج الدراسة
التحليل الأيقونوجرافي لصور قناة السويس في عهد الخديوي إسماعيل
ينطوي التحليل الأيقونولوجي على مسألتين؛ الأولي: الخلفيات
التاريخية، الثانية: التحليل الأيقوني للصور ومقارنته مع الواقع التاريخي، وينطوي
عصر إسماعيل بالنسبة لقناة السويس على حدثين أحدهما يتصل بحفر القناة، والآخر
يتعلق بحفل افتتاحها.
(1) الملابسات التاريخية لحفر قناة السويس
أعطى امتياز حفر قناة السويس الصادر من قِبل الخديوي
سعيد سنة 1854 والمرسوم المكمِّل له الصادر سنة 1856 لديليسبس الحق في إنشاء شركة
مساهمة هي “شركة قناة السويس العالمية"
وقد انتزعت الشركة 133 ألف هكتار من الأراضي التي كانت تمتلكها الحكومة
والشعب المصري الذي عوضته الشركة تعويضًا غير عادل؛ مما اضطرهم للعمل في القناة
للعيش، كما حصلت الشركة علي كميات كبيرة من مواد البناء دون مقابل من المناجم
والمحاجر الحكومية، وكذلك استيراد الآلات والمعدات بعد إعفائها من الرسوم
الجمركية، كما قدمت الحكومة المصرية 80% من العمال اللازمين لأعمال الحفر، وكان
امتياز القناة يُقر أن النسبة الكبرى وقدرها 85% تعود للمؤسسين والمساهمين في
مقابل 15% للحكومة المصرية، وقد كان نصيب فرنسا من الأسهم 52% بعد شراء أسهم الدول
الأخرى، في الوقت الذي كانت أسهم مصر 44%.
كما أن الحكومة المصرية بعد تعديلها لامتياز قناة السويس
في 22 فبراير 1866 بعد رفض السلطان العثماني التوقيع عليه إلا بعد تعديل الشروط
المجحفة لمصر، قام ديليسبس بتحكيم نابليون الثالث بين الشركة والحكومة المصرية،
فقامت مصر بتعويض الفلاحين عن الأراضي، ودفعت أجور العمال، مما شكل عبئاً عليها،
واستطاعت الشركة أن تنهي مهمتها في 17 نوفمبر 1869 بافتتاح القناة في حفل أسطوري
قرَّب مصر من الإفلاس، مما دفعها للاقتراض من إنجلترا، وبعد عجز الحكومة المصرية
عن السداد، اشترت إنجلترا أسهمها في القناة عام 1875 بأربعة ملايين جنية إسترليني.
ومعنى هذا أن مصر حفرت القناة بالمجان وباعتها بالمجان.
(ب) التحليل الأيقونوجرافي لصور حفر وافتتاح قناة السويس
في عهد إسماعيل
إن الصور التي تمثل مرحلة حفر قناة السويس وافتتاحها في
عهد إسماعيل صوراً قليلة ونادرة ومرسومة باليد لأن التصوير في هذه الفترة كان في
بداياته، ويتطلب أن يظل المشهد المراد تصويره ثابتاً لمدة خمس دقائق، مما يفقد
الحدث حاليته. يؤكد ذلك أن أول صورة فوتوغرافية في الصحافة المصرية كانت لديليسبس
على الصفحة الأولي من صحيفة الأهرام عام1891م.
تتميز الصور المرسومة بأنها ذاتية الطابع؛ وفقاً لمن
يجسد هذا الواقع عن طريق الرسم، فيمكن أن يعكس الواقع أو لا يعكسه بشكل واقعي،
لأنه يعتمد على انطباع الرسام المؤيد أو المعارض لأسرة محمد علي، وتركيز الرسام على
بعض التفاصيل وإهمال تفاصيل أخرى سواء أكان ذلك بقصد أم بدونه، وثمة مجموعة من
الأسئلة عن الفترة التي تم فيها الرسم هل متزامنة لحفر القناة أم فترة تالية
لحفرها؟، وهل المكان الذي تم رسمه حقيقي أم من خيال الرسام؟ وهل الرسام يتأثر
بأيديولوجية ما أثناء رسمه؟
ويدعم فرضية عدم عكس الرسوم للواقع تاريخيًا، وصف
التصوير بأنه لا يمكن الوثوق به، حيث رأى أفلاطون أن الصور المرئية كاذبة، فهي
تقليد شاحب للواقع تحتاج إلى سند. كما أن التطور التكنولوجي غير بعض الثوابت الخاصة
بأن الكاميرا لا تكذب، والصورة تعادل ألف كلمة؛ فالصورة مثل: جميع الأشكال
التصويرية ليست بريئة أو محايدة في نقل الحقيقة، فهي ليست مرآة تعكس الواقع وتنقله
بصدق وموضوعية، ولكنها تقوم بدور تأويل الواقع، وتفسيره وإضفاء بعض اللمسات عليه (الرتوش)
لتحقيق منفعة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية معينة، أو تكرس لأيديولوجية
ما.
وهذا الطرح
يضعنا بين فرضيتين بالنسبة لحفر قناة السويس، الأولى: أن هذه الرسوم قُدمَت في
فترة حفر القناة، الثانية: أن هذه الصور رسمت في فترة لاحقة لحفر القناة، ودونما
تحيز لهذه الفرضية أو تلك، فإن التحليل
سوف يثبت إحداهما، فإن شواهد حفر القناة وما عاد علي مصر منها يدعم حقيقة أن مصر
عانت من حفر القناة اقتصاديًا وسياسيًا بشكل أثر علي سيادتها واقتصادها دفع ثمنه
الشعب المصري من كرامته وسيادته انتهاءً باحتلال أراضيه، وتم تجسيد هذه الحالة في
مجموعة من الصور والرسوم تعكس هذه المعاناة، وعلي الطرف الآخر، سجل الغرب تميزه
التقني في حفر قناة السويس واشتراك مهندسيه فيها، فنحن أمام صور يطرحها الغرب وأخرى
تطرحها مصر.