المركز العربي للبحوث والدراسات : كتابة التاريخ بلون السياسة : تزييف تاريخ مصر الحديث والمعاصر (طباعة)
كتابة التاريخ بلون السياسة : تزييف تاريخ مصر الحديث والمعاصر
آخر تحديث: الأحد 03/07/2016 10:57 ص ا.د. محمد صفي الدين خربوش أستاذ العلوم
كتابة التاريخ بلون
أثار ما تردد عن حذف اسم د.محمد البرادعي من قائمة الحاصلين على جائزة نوبل ، في أحد الكتب الدراسية،  نقاشا حادا  بين المؤيدين  والمعارضين، وفقا للموقف السياسي من د. البرادعي. وبالرغم من وجاهة الاعتراض ، باعتبار ذلك تزييفا للحقيقة ، إلا أنه من المثير للدهشة أن يأتي الاعتراض من مؤيدي د.البرادعي وحوارييه.  وقد كانوا أصحاب سبق في تزييف التاريخ ولي الحقائق بما يتسق مع أهوائهم وهوى كبيرهم، خلال السنوات الخمسة الأخيرة.
فقد أصبح مبارك، منذ تخليه عن السلطة في فبراير2011،  مسئولا عن خراب مصر ودمارها. ولم تكن سنوات حكمه إلا خليطا من الاستبداد ( حيث يعني ذلك أن مصر كانت واحة للديمقراطية الليبرالية قبل مبارك ) ، والتردي الاقتصادي ( حيث كانت مصر دولة ثرية قبل مبارك ) ، وانهيار التعليم ( الذي كان متميزا قبل مبارك ) ، وغير ذلك كثير. وأصر أنصار د.البرادعي وحوارييه وغيرهم من "الثوار" على حذف اسم مبارك من جميع المنشات التي شيدت في عهده. وعندما أصدرت محكمة أول درجة حكما بذلك ، تم تنفيذ الحكم فورا . وعندما تم إلغاء الحكم من المحكمة الأعلى، لم يتم التنفيذ . وأصبح من المفارقات أن توجد على محطات مترو الأنفاق في القاهرة ، أسماء الزعماء السابقين أحمد عرابي وسعد زغلول وجمال عبد الناصر والسادات، ويحذف اسم من تم تشييد المترو في عهده.       
    ولقد كان من اللافت للنظر أن يحاول أحد السادة الوزراء نفي" الاتهام " المتعلق بحذف اسم د.البرادعي من خلال التصريح بأن ذلك الأمر قد حدث إبان فترة الوزير السابق. ولم يكن الأمر يستحق  كل هذا الجدل ، فقد حصل د. البرادعي على جائزة نوبل ، كما حصل عليها الرئيس السادات والأديب الكبير  نجيب محفوظ ود.أحمد زويل . تلك حقيقة لا علاقة لها بآراء ولا بمواقف د. البرادعي السياسية ، ولا بموقف وزارة التربية والتعليم أو وزيرها أو مؤلفي الكتاب.
      وأجد من الضروري تذكير المصريين  بأن  المصريين قد  شهدوا منذ النصف الثاني من القرن العشرين تزييفا غير مسبوق  لتاريخهم الحديث والمعاصر، سواء تعلق الأمر بتاريخ مصر ، أو بعلاقاتها  العربية والإقليمية والدولية . وقد تباينت رؤي كتاب التاريخ  المصريين تباينا شديدا خلال النصف الأخير من القرن الماضي ، وانتقل البعض منهم  من النقيض إلى النقيض ، لاسيما بين عقدي الستينيات و السبعينيات.
     لقد طغت السياسة على كتابة التاريخ المصري، ليس على مستوى تحليل الأحداث والوقائع والتي من البدهي أن يختلف عليها ، بل على مستوى الوقائع والأحداث ، والتي لا يجوز تزييفها. يمكن الاختلاف حول تحليل عوامل الهزيمة أو النصر ؛ ويمكن الدفاع عن الصمود أو عدم الاستسلام للهزيمة ؛ لكن من المستحيل أن تتحول  الهزيمة الى انتصار ولا أن يعتبر النصر هزيمة .  ومن البدهي  ألا يخلو أي حاكم من  عيوب أو نواقص أو نقاط ضعف .فلم ولن يوجد الحاكم المعصوم من الخطأ في أي دولة متقدمة أو متخلفة ، فهو بشر يخطئ ويصيب . ومن البدهي أيضا ألا يخلو أي حاكم من بعض السمات الايجابية، ولا أن يستمر في الحكم أعواما دون أن يترك أي انجاز لأفراد شعبه .
   ولقد تزايدت خطورة الأمر عندما امتدت يد العبث إلى المقررات الدراسية ذات الدور الرئيسي في التنشئة السياسية؛ أي مقررات  تاريخ مصر والعرب  الحديث والمعاصر  والتربية الوطنية  أو القومية، بالإضافة إلى بعض مقررات  اللغة العربية. وعادة ما يتم
  تدريس هذه المقررات  في  المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية.  وقد طغت الاتجاهات السياسية، والحرص على إرضاء الحكام ، دون طلب منهم في معظم الأحيان، على هذه المقررات، وذلك منذ الخمسينيات من القرن الماضي وحتى ألان، وأن بدرجات متفاوتة . ويمكن ذكر العديد من الأمثلة على هذا الانحياز السافر والتلاعب بالحقائق التاريخية ، وتعديل المقررات الدراسية،  وفقا للأهواء السياسية ، وتقربا من الحكام الجدد ، وحرصا على التبرؤ من الحكام السابقين .
  لقد حفلت كتب التاريخ في الحقبة الناصرية ، ولعلها كانت بداية غرس هذه الآفة في المقررات الدراسية، بتزييف مذهل لتاريخ مصر الحديث والمعاصر. ولقد نمت هذه الغريزة نموا مذهلا ، فأينعت وأضحت شجرة وارفة، تجد دائما من يعتني بها ويرعاها من الطامحين والطامعين والمتملقين في كل عصر وحين . ويمكن الإشارة هنا إلى بعض أهم  أمثلة التزييف:

تباينت رؤي كتاب التاريخ المصريين تباينا شديدا خلال النصف الأخير من القرن الماضي ، وانتقل البعض منهم من النقيض إلى النقيض ، لاسيما بين عقدي الستينيات و السبعينيات
أولا : قد تعرض محمد علي والأسرة العلوية لأكبر عملية تزييف . فقد نعت مشروع محمد علي بالفشل لأسباب لا تتسق مع المنطق ، وكان من أهم هذه الأسباب أن محمد علي لم يكن مصريا ولم يكن يجيد اللغة العربية ، وأنه كان يسعى لبناء إمبراطورية له ولأولاده من بعده، وبالرغم من تهافت هذين السببين ؛ لم يستح من كتب هذا الهراء أن يذكر ضمن أسباب الفشل أن محمد علي لم يكن مؤمنا بالقومية العربية !!! لقد بلغ النفاق والتردي ذروته في هذه العبارة ، فقد كان على محمد علي ، غير المصري ولا العربي ، والذي تولى حكم مصر (1848-1805) أن يؤمن بالقومية العربية التي لم يسمع عنها العرب إلا في النصف الأول من القرن العشرين  ، ناهيك عن أن يؤمنوا بها .
ثانيا : تم إخفاء أي ايجابيات من قبل محمد علي وخلفائه . ومن المؤكد أن محمد علي هو مؤسس مصر الحديثة بلا منازع ، فقد بنيت الدولة المصرية على أيدي محمد علي ، والذي استطاع أن يحول مصر في ربع قرن من ولاية تعاني من الفوضى والخراب إلى دولة عظمى؛ تطلبت مواجهتها تحالف الدول العظمى آنذاك لإرغام الجيش المصري على الانسحاب من تركيا والشام  ، والاكتفاء بمصر والسودان .
  ثالثا :  إذا كان مشروع محمد علي قد أصابه الفشل، كما ادعى كتاب التاريخ المزيف في الستينيات ،  فما هو المشروع الذي كلل بالنجاح بعد نهاية حقبة محمد علي؟ وما هي معايير النجاح والفشل ، بعيدا عن درجة إجادة اللغة العربية والإيمان بالقومية العربية ؟
  رابعا : ما تزال القناطر  الخيرية ( قناطر محمد علي ) التي أنشأها محمد علي منذ قرابة قرنين تنظم الري في دلتا النيل ؛ وما يزال نظام الري والصرف في الدلتا الذي وضع خلال حكم محمد علي ، صاحب المشروع الفاشل ، يعمل بكفاءة حتى الآن .
  خامسا : أنشأ محمد علي جيشا مصريا مرهوب الجانب  في المنطقة وفي العالم، بقيادة ابنه إبراهيم باشا معتمدا للمرة الأولى على أبناء الفلاحين المصريين . وحقق هذا الجيش انتصارات مدوية في شبه جزيرة العرب والشام وتركيا واليونان . وضمت دولة محمد علي حتى عام 1840 مصر والسودان وشبه جزيرة العرب والشام وأكثر من نصف تركيا الحالية .
  سادسا : أرسل محمد علي "صاحب المشروع الفاشل"  البعثات إلى الدول الأوروبية المتقدمة من أبناء الفلاحين المصريين  النابغين ، وأسس مدارس عليا  ( كليات ) في الطب والهندسة وغيرهما في الثلث الأول من القرن التاسع عشر ، حيث حصل مصريون على درجات جامعية في الطب والهندسة في النصف الأول من القرن التاسع عشر .
 
سابعا : تم تقديم  الخديوي إسماعيل في مقررات التاريخ في الستينيات في أسوأ صورة ممكنة ، حيث أغرق مصر في الديون وتسبب في الاحتلال البريطاني ، في حين أن بريطانيا هي التي دفعت السلطان العثماني إلى عزله . ما لم تقله مقررات التاريخ أن إسماعيل قد أعاد إحياء مشروع جده محمد علي ، فأرسل البعثات إلى الدول الأوروبية المتقدمة ، وحقق طفرة هائلة في العلوم والثقافة والفنون ، وأنشأ أول برلمان للمصريين ( عام 1866) وأول مجلس نظار (وزراء ) ، وافتتحت قناة السويس في عهده ، وأعاد تطوير الجيش المصري من أبناء الفلاحين  وكون لمصر  إمبراطورية في وسط وشرق أفريقيا . وقد أرسل إمبراطور اليابان بعثة إلى مصر خلال حكم الخديوي إسماعيل ، كي تتعرف على أسباب نهضة  مصر لتحذو اليابان حذوها .

نعت مشروع محمد علي بالفشل لأسباب لا تتسق مع المنطق ، وكان من أهم هذه الأسباب أن محمد علي لم يكن مصريا ولم يكن يجيد اللغة العربية
   ثامنا: حظي الملك فاروق بالنصيب الأكبر من الهجوم في مقررات التاريخ ، حيث تم نعته بأسوأ النعوت ، ولم يكن يذكر إلا متبوعا بوصف " الفاسد " ، وقد تصور بعضنا عندما كنا أطفالا أن هذا كان لقبه الرسمي، مثل  العادل و الكامل والمظفر والظاهر . وألقي في روع المصريين الذين لم يعاصروا حقبة فاروق، أن ملكهم السابق  لم يكن يفعل شيئا إلا الرذائل المشينة، وأن حياته لم تكن سوى حياة المجون التي لا تليق بالملوك ولا بالبشر العاديين. وما لم تقله كتب التاريخ أن مصر في عهد الملك "الفاسد " قد أقرضت بريطانيا العظمى في الأربعينيات بما يعادل مليارات الدولارات في الوقت الحالي، وأن مصر كانت من الدول التي سعت الولايات المتحدة الأمريكية لإقناعها بإقراض الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الأخيرة، وأن قيمة الجنيه المصري كانت أعلى من قيمة جنيه الذهب، وأن مواطني بعض الدول الأوروبية شمال المتوسط كانوا يقصدون المدن المصرية للعمل في المقاهي والمطاعم المصرية .
  تاسعا : تم الهجوم أيضا على سعد زغلول ومصطفى النحاس وجميع زعماء حزب الوفد . وخرج علينا "ميثاق العمل الوطني" الذي كان يدرس في المدارس ليقول" وركب  سعد زغلول  قمة الموجة الثورية "!!! وأن ثورة 1919 قد فشلت لأنها لم تمد بصرها عبر سيناء؛ ولا ندري ما العلاقة بين الفشل وبين مد البصر عبر سيناء  نحو المشرق العربي ولم يكن من المنطقي أن يتهم سعد زغلول ورفاقه بالأصل غير المصري ولا بعدم إجادة اللغة العربية . ومن المؤكد أن مصر قد أصبحت دولة مستقلة من الناحية الرسمية  عام 1922 ، وهو التاريخ الرسمي لاستقلال الدولة المصرية ، والذي لا يعرفه الكثير من المصريين ، ولا يوجد في مصر ما يسمى بعيد أو بيوم الاستقلال . كان هذا الاستقلال هو الانجاز الأهم لثورة 1919 ، بالرغم من تحفظات تصريح فبراير 1922. وقد مهد ذلك الاستقلال السبيل أمام صدور دستور 1923 ، الذي كان دستورا يؤسس لملكية دستورية متقدمة ، مع أن التطبيق لم يكن في مستوى روعة الدستور.
  عاشرا :  أجد لزاما علي أن أذكر الذين انتفضوا لحذف اسم  د.البرادعي ، وهم على حق في رفضهم، أنه قد تم حذف أسماء محمد علي وخلفائه من جميع المؤسسات والهيئات والميادين والشوارع . فأصبحت قناطر محمد علي القناطر الخيرية ، وجامعات فؤاد الأول القاهرة وفاروق الإسكندرية وإبراهيم باشا عين شمس ومحمد علي أسيوط . وتغيرت أسماء الميادين والجسور على نهر النيل والشوارع ، حيث اختفت أسماء فؤاد وإبراهيم باشا وعباس . وكان من المثير للدهشة أن يتغير اسم ميدان إبراهيم باشا ويظل تمثاله الرائع وسط الميدان الذي لم يعد باسمه . ومع ذلك ،  يبدو أن دعاة حذف أسماء هذه الأسرة لم يتمكنوا ، أو لم ينتبهوا ، إلى تغيير أسماء محافظات ومدن مثل بورسعيد والإسماعيلية وبور فؤاد ؛ بالرغم من أن هذه أكثر شهرة من اسم ميدان أو شارع ، وبالرغم من عظمة انتصارات الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا .
  حادي عشر : ثمة حالة فريدة في التاريخ المصري الحديث تستحق الذكر منفردة ، ألا وهي حالة الأميرة فاطمة هانم ابنة الخديوي إسماعيل . فقد كان لهذه السيدة الجليلة الفضل الأول في إنشاء جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا ) ، بما تبرعت به من أراض وأموال وحلي ، ومع ذلك ، التحق ملايين الطلاب والطالبات بجامعة القاهرة خلال ألستين عاما الأخيرة ، دون أن يعلموا شيئا عن صاحبة الفضل في إنشاء هذه الجامعة . ويبدو أن كارهي أسرة محمد علي لم يتمكنوا من حذف اسمها المحفور على المبنى الرئيسي لكلية الآداب " هذا من أثار صاحبة السمو فاطمة هانم إسماعيل " ، أو لعلهم لم يروه لأنه لا يظهر إلا لمن يدقق النظر . وبسبب حب المصريين العاديين لهذه السيدة العظيمة ، انتشر اسم " فاطمة هانم " بين المصريات في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين .
  ثاني عشر  : وبعيدا عن أسرة محمد علي ،  ارتكبت كتب التاريخ المقررة في المدارس جريمة نكراء بإغفالها اسم اللواء محمد نجيب قائد "حركة الجيش "عام 1952 ، والذي كان أول رئيس لجمهورية مصر عام 1953 مع إلغاء النظام الملكي . فقد درسنا في كتب التاريخ في الستينيات أن الرئيس جمال عبد الناصر هو أول رئيس لمصر  ، وأنه أول حاكم مصري منذ أيام الفراعنة ، حيث لم يكن من تعاقبوا على حكم مصر من فرس وبطالمة ورومان وعرب وطولونيين واخشيد وفاطميين وأيوبيين ومماليك و أتراك وألبان ( الحكام من أسرة محمد علي ) من ذوي الأصول المصرية. ولم يعرف جيل من المصريين اسم محمد نجيب إلا بعد وفاة عبد الناصر،  حيث أطلق سراحه من إقامته الجبرية التي قضى فيها سنين عدة منذ عزله من رئاسة جمهورية مصر عام 1954.
كانت وفاة عبد الناصر عام 1970 بداية التحول نحو النقيض في كتابة التاريخ المصري الحديث والمعاصر ؛ سواء تعلق الأمر بمحمد نجيب أو بالأسرة العلوية أو بالملك فاروق ، أو بالحقبة الناصرية
  ثالث عشر : تم توقيع اتفاقية الجلاء عام 1954 لجلاء القوات البريطانية من قاعدة قناة السويس ، وتم الجلاء  في يونيو1956، وهو اليوم الذي اعتبر عيدا للجلاء .لكن المصريين لم يعلموا بأن هذه الاتفاقية نصت على بقاء أجزاء من القاعدة صالحة لاستخدام القوات البريطانية في حالة حدوث اعتداء على إحدى الدول العربية أو تركيا !!! وعندما شاركت بريطانيا فرنسا وإسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر ، قام عبد الناصر بإلغاء هذه الاتفاقية.
     رابع عشر : اعتبر الانتصار السياسي الرائع في التعامل مع تأميم قناة السويس وما أعقب التأميم من عدوان ثلاثي على مصر عام 1956 نصرا مؤزرا . وتم إغفال الحديث عن الهزيمة العسكرية واحتلال غزة وشبه جزيرة سيناء ، وأصبح يوم الانسحاب من الأراضي المصرية التي تم احتلالها عيدا للنصر . ولم يعلم المصريون بأن الانسحاب قد اقترن بالسماح للسفن الإسرائيلية بالمرور عبر مضيق تيران وبوجود قوات دولية في شرم الشيخ ، إلا بعد عشر سنوات عندما أعلن الرئيس عبد الناصر إغلاق الخليج أمام السفن الإسرائيلية عام 1967.، وطالب بانسحاب القوات الدولية .
  خامس عشر : بالرغم من تلقي مصر أكبر هزيمة عسكرية في تاريخها ، بسبب الإدارة السياسية شديدة السوء لأزمة مايو - يونيو 1967، صك "العباقرة " مصطلحا جديدا للهزيمة هو  " النكسة "،  واعتبروا أن بقاء عبد الناصر ، الذي  أعلن التنحي بعد الهزيمة المروعة، في السلطة يعني الصمود ورفض الهزيمة. أكثر من هذا ، اعتبر البعض أن العدوان الإسرائيلي لم يتمكن من تحقيق أهدافه ، ما دام عبد الناصر باقيا في حكم مصر ؛ بالرغم من احتلال غزة وشبه جزيرة سيناء وإغلاق قناة السويس .
  سادس عشر  : كانت وفاة عبد الناصر عام 1970 بداية  التحول نحو النقيض في كتابة التاريخ المصري الحديث والمعاصر ؛ سواء تعلق الأمر بمحمد نجيب أو بالأسرة العلوية أو بالملك فاروق ، أو بالحقبة الناصرية .  وكما تبارى البعض في وسم حقبة الملك فاروق بالخلاعة والمجون ؛ فقد تبارى آخرون في نعت حقبة عبد الناصر بالاعتقالات والتعذيب في المعتقلات ، إضافة إلى الهزيمة المروعة التي لم يكن للقوات المسلحة دور فيها ، بل سوء إدارة عبد الناصر للأزمة  . وصدرت العديد من الروايات ، وأنتجت عدة أفلام سينمائية في السبعينيات، خيل لمن شاهدها بأن مصر كانت عبارة عن معتقل كبير يمارس فيه التعذيب ، وأن  الاعتقال العشوائي والجماعي لأتفه الأسباب والتفنن في تعذيب  المعتقلين ، كانا من الهوايات المفضلة لدي عبد الناصر ورفاقه.
    سابع عشر :  رسخ الرئيس السادات شرعيته الخاصة بانتصار أكتوبر العظيم ،  فتوارى الميثاق " المقدس "  ، وتصدرت  "ورقة أكتوبر " التي قدمها الرئيس السادات المشهد . وأصبحت كتب التربية الوطنية ، التي لم تعد قومية ، تقتبس من ورقة أكتوبر التي أصبحت  أ"الميثاق الجديد "في عقد السبعينيات . كما زاحمت ثورة مايو نظيرتها يوليو ، فأصبح الحديث دائما عن مبادئ ثورتي يوليو ومايو ، حيث وسمت الأخيرة بكونها ثورة تصحيح الأولى .
  ثامن عشر : بدأ الهجوم على الرئيس السادات خارج مصر في سنوات حكمه الأخيرة ، لاسيما بعد مبادرته السلمية عام 1977 وتوقيعه اتفاقيتي كامب ديفيد في العام التالي ،ثم معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1979. وشارك كتاب مصريون في هذا الهجوم الضاري مدعومين من عواصم عربية تزعمت مقاطعة مصر بعد توقيع المعاهدة . فقد صدرت صحف وبثت محطات إذاعية من عواصم عربية ، أو من عواصم أوروبية بدعم عربي ، وتخصصت هذه الصحف والإذاعات التي أدارها مصريون في الهجوم على الرئيس السادات والسياسة المصرية .
من غير الممكن أن تقوم التنشئة الوطنية على الأهواء السياسية وعلى تقلبات السياسة ودسائسها
  تاسع عشر : اشتدت نبرة الهجوم على الرئيس السادات بعد اغتياله ، ووصل حدة الهجوم حدا جعل البعض يعتقد أن السادات هو الذي أضاع فلسطين ( كانت قد ضاعت بسبب هزيمة الجيوش العربية  في 1948وفي 1967 ) ؛ وهو الذي أنشأ دولة إسرائيل ( أعلنت عام 1948 وانضمت إلى الأمم المتحدة في العام التالي ) ، وهو الذي مزق العرب ( الذين كانت وحدتهم حديث العالم والمثال الذي يحتذي في الوحدة ). ناهيك عن سوءات الانفتاح الاقتصادي الذي دمر الاقتصاد المصري ( باعتباره كان قويا وفي أفضل حال ) . وأصر الكاتب الأشهر في الحقبة الناصرية ، وصاحب تعبير النكسة بدلا من الهزيمة ،   على تأليف كتاب ألصق في صفحاته جميع السمات السلبية بالرئيس السادات ، وتضمن بعضها إشارات عنصرية. ووصل التزييف ذروته في اعتبار هزيمة . يونيو المروعة صمودا ونصر أكتوبر العظيم انكسارا ، بسبب " صمود "  عبد الناصر بعد الهزيمة ، و"استسلام " السادات بعد حرب أكتوبر.
    عشرون : شهدت حقبة الرئيس مبارك عراكا حادا بين أنصار عبد الناصر ومؤيدي السادات ، وشارك في هذا العراك أفراد من أسرة الرئيسين الراحلين . ووصل هذا الصدام ذروته في اتهام الرئيس السادات بقتل الرئيس عبد الناصر بالسم ، وجاء هذا الاتهام من قبل الابنة الكبرى للرئيس عبد الناصر !!!
  واحد و عشرون : شهدت حقبة مبارك تضخيما في تأثير الضربة الجوية التي قادها مبارك في نجاح العبور وتحقيق نصر أكتوبر1973، حيث كان مبارك قائدا للقوات الجوية خلال الحرب . وبالرغم من الدور المحوري للقوات الجوية في الحرب ، والتي كانت السبب الأساسي لاختيار مبارك نائبا للرئيس السادات ثم رئيسا للجمهورية ؛ فقد تبارى الكتاب في تحليل أثار هذه الضربة الجوية ودور سلاح الطيران فيها ، مجاملة لمبارك ، وعلى حساب أسلحة أخرى مثل الدفاع الجوي والمدرعات والمدفعية والمشاة والبحرية والقوات الخاصة وباقي أسلحة الجيش المصري . وكما  تم تأليف أغان عدة للرئيس السادات ،صاحب قرار عبور القناة ، ألفت أغان مماثلة لبطل الضربة الجوية ، الرئيس مبارك ،  خلال فترة رئاسته .
   ثان وعشرون : ما أن غادر مبارك السلطة حتى انبرى الكتاب أنفسهم  في الهجوم على جميع سياساته وقراراته . وعلى النقيض من المبالغة في تأثير ومحورية الضربة الجوية في مسار حرب أكتوبر ، تم التقليل من أهميتها ، وتعظيم أدوار  القيادات العسكرية الأخرى والأسلحة الأخرى التي شاركت في حرب أكتوبر . وبلغ الهجوم على القوات الجوية ، بسبب قيادة مبارك لها ، حد  إنكار حدوث الضربة الجوية من الأساس!!!
    ثالث وعشرون : تبارى الكتاب والمعلقون في الصاق جميع النقائص بحقبة مبارك ، فقد انهار التعليم (على اعتبار انه كان متميزا  قبل مبارك )، وانتشرت الأمراض الخطيرة ، وعم الفساد ، وافتقر المصريون ( الذين كانوا أغنياء قبل مبارك ) ، واتهم  حكم مبارك
بالاستبداد ( حيث كان النظام المصري نظاما ديمقراطيا ليبراليا قبل مبارك ). وتم تغيير المقررات الدراسية لتتحدث عن فساد مبارك واستبداده ، بعبارات  تشبه ما قيل عن الملك فاروق ؛ بالإضافة إلى تمجيد " ثورة يناير" وشهدائها الأبرار . ويمكن الإشارة إلى مثال وحيد يتعلق بصحة المصريين . فقد سادت نغمة انتشار الأمراض والأوبئة والتردي الشديد في صحة المصريين . لكن الواقع يقول أن متوسط العمر المتوقع عند الميلاد قد ارتفع من أقل من ستين عاما إلى أكثر من سبعين عاما ( 71.5) ؛ وأن وفيات الأطفال الرضع والأمهات الحوامل قد اقتربت من الصفر ؛ وأن أمراضا مثل شلل الأطفال والحصبة قد اختفت . تلك هي المؤشرات  التي يقيس بها العالم مدى التقدم في مجال الصحة ، ويقارن بين الدول على أساسها.
   رابع وعشرون : عندما وصل الدكتور محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين إلى منصب رئيس الجمهورية ، تم تعديل المقررات الدراسية للمرة الثانية خلال عام ونصف ، أو عامين دراسيين  ، لكي تتناسب مع انتماء الرئيس الجديد . وقدمت جماعة الإخوان ومؤسسها وأعضاؤها بصورة ايجابية  ؛ وتم  الحديث عن نضال الإخوان وماثرهم منذ "الأمام الشهيد " مؤسس الجماعة ، وحتى وصول مرسي إلى الرئاسة . وتم التركيز على "ثورة يناير المجيدة " وعلى الدور المحوري لجماعة الإخوان المسلمين في قيادة " الثورة " ، ولشبابها في نجاحها .
   خامس وعشرون : ما أن تمت إزاحة الدكتور مرسي وعشيرته من السلطة ، حتى عادت المقررات الدراسية سيرتها الأولى ؛  في السنة الدراسية اللاحقة  . وبدلا من تمجيد زعماء  الإخوان  وشبابهم  ، تم  تمجيد آخرين من الشباب . ومن ثم ، حل هؤلاء  المشاركون في التظاهرات ،  كسابقيهم من  مقتحمي السجون والأقسام ، محل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وأحمد عرابي و مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وماهر والنقراشي  وأحمد لطفي السيد وطه حسين وعلي مصطفى مشرفة ومحمد حسين هيكل وطلعت حرب  وهدى شعراوي وعائشة عبد الرحمن وغيرهم من الزعماء الوطنيين والمفكرين والعلماء .
تقتضي التنشئة الوطنية السليمة أن يدرس الطلاب المصريون تاريخ مصر الفرعوني والإغريقي والروماني والمسيحي والعربي الإسلامي الحدويث والمعاصر
سادس وعشرون :  إذن ، لقد تم تغيير المقررات الدراسية في التاريخ والتربية الوطنية ( وهي المقررات الأساسية في التنشئة ) ثلاث مرات في أقل من ثلاثة أعوام  ، وفي أربعة أعوام دراسية. فقد درس الطلاب مقررات شديدة التباين في الأعوام الدراسية( 2011/2010) و(2012/2011) و (2013/2012)و(2015/2014).
   سابع وعشرون :  يعني ما سبق أن الطلاب الذين كانوا في السنة الثالثة الإعدادية في العام الدراسي( 2011/2010 ) قد درسوا مقررات  دراسية تعدد انجازات مبارك بطل الضربة الجوية التي مهدت السبيل أمام نصر أكتوبر العظيم، والذي أعاد العلاقات المصرية مع الدول العربية وحافظ على السلام ورفع العلم المصري على العريش استكمالا للانسحاب الإسرائيلي من سيناء ، وفقا لمعاهدة السلام مع إسرائيل ، واستعاد طابا بالتحكيم الدولي ، بالإضافة إلى الانجازات الهائلة في مجال البنية الأساسية ، ومنها مترو الأنفاق في القاهرة الكبرى . وعندما انتقل هؤلاء الطلاب إلى الصف الأول من المرحلة الثانوية في العام الدراسي (2012/2011) وجدوا المقررات الدراسية تهاجم مبارك ونظامه المستبد الفاسد الذي أفقر مصر والمصريين ، واختفت الضربة الجوية . وفي العام الدراسي اللاحق ، انتقل الطلاب أنفسهم إلى الصف الثاني من المرحلة الثانوية ( 2013/2012 ) ، فوجدوا مقررات تمجد جماعة الإخوان المسلمين وزعماءها وتهاجم أعداءها ، وتقلل من ، أو تخفي، أي انجاز  ينسب إلى أي من الرؤساء السابقين من عبد الناصر إلى مبارك . ناهيك عن تقديس" ثورة يناير العظيمة " التي قادها الإخوان . وعندما انتقل نفس الطلاب إلى الصف الثالث من المرحلة الثانوية في العام الدراسي (2014/2013) وجدوا مقررات دراسية تهاجم جماعة الإخوان الإرهابية  التي " سرقت  الثورة " وأقصت جميع من شارك فيها ، واحتكرت السلطة  ، ناهيك عن إعادة التذكير بالتاريخ الدموي للإخوان منذ اغتيال النقراشي وحتى ألان .
   ثامن وعشرون :  تعرض باقي الطلاب منذ عام 2011 إلى نوع من الصدمة ، وأن بدرجات أقل مما تعرض له زملاؤهم السابق الإشارة إليهم في البند السابق ، وهم الذين تعرضوا لأكبر صدمة جراء التناقض المتتالي عبر أربعة أعوام دراسية . فقد أجريت تعديلات متضاربة في جميع مقررات التنشئة التي  درسها التلاميذ والطلاب خلال الفترة الممتدة من العام الدراسي( 2012/2011) الى العام الدراسي (2014/2013).
                          
   تاسع وعشرون : إذا كان البعض قد أبدى انزعاجه من حذف اسم د. البرادعي من أحد المقررات الدراسية ، فماذا يقول المصريون عما تمت الإشارة إليه من حالات تزييف صارخة في تاريخ مصر الحديث والمعاصر ؟ و متى تتسم  الكتابات المصرية ، لاسيما المقررات الدراسية ، بالموضوعية ، بحيث تعطي كل ذي حق حقه من الايجابيات والسلبيات ؟ ومتى لا يتعرض  الطلاب المصريون في المدارس المصرية لصدمات تشبه صدمة السنوات الدراسية التي أعقبت العام 2011 ؟ ومتى تتم تنشئة النشء والشباب في مصر على الزهو بوطنهم والاعتزاز بزعمائهم الذين أضافوا لهذا الوطن؟ وهل يحلم المصريون بأن يفتخروا بالآباء المؤسسين لهذا الوطن ، كما يتحدث غيرهم بكل زهو عن الآباء المؤسسين ؟ هل يشك أحد في كون محمد علي هو الأب المؤسس للدولة المصرية الحديثة  ؟ وبأن إبراهيم باشا هو الأب المؤسس للجيش المصري الحديث  ؟  وبأن رفاعة الطهطاوي ومصطفى كامل وأحمد لطفي السيد وسعد زغلول  هم أبرز مؤسسي الوطنية المصرية ؟ وبأن هدى شعراوي وصفية زغلول وسيزا نبراوي وملك حفني ناصف هن من الأمهات المؤسسات  للمرأة المصرية الحديثة ؟ وبأن طلعت حرب وعبود وفرغلي هم من الآباء المؤسسين للصناعة المصرية ؟                  
  من غير  الممكن أن تقوم التنشئة الوطنية على الأهواء السياسية وعلى تقلبات السياسة ودسائسها . وعلى من يتصدون للمقررات التي  تدرس للنشء والشباب ،في مرحلة تلقي المعارف السياسية وتكوين القيم السياسية، أن يكونوا شديدي الحرص على الالتزام بالموضوعية التي تعني عدم التحيز للبعض والهجوم على الآخرين . وإذا أردنا عدم تكرار الكوارث التي تضمنتها كتب الخمسينيات والستينيات والسنوات الخمسة الأخيرة ، فعلينا رد الاعتبار لكل من أسهم في بناء هذا الوطن منذ الفراعنة وحتى الآن .
     ثلاثون :  تقتضي التنشئة الوطنية السليمة أن يدرس الطلاب المصريون تاريخ مصر الفرعوني والإغريقي والروماني والمسيحي والعربي الإسلامي والحديث والمعاصر ، دراسة موضوعية . ويجب أن يتضمن التاريخ الحديث والمعاصر رد الاعتبار لمحمد علي ولأسرته ، لاسيما إبراهيم باشا ، صاحب الانتصارات المبهرة ؛ ولمحمد سعيد ، صاحب العصر الذهبي للفلاح المصري ؛ ولإسماعيل ، صاحب النهضة العلمية والثقافية ومنشئ أول برلمان في تاريخ مصر ، ولعباس حلمي ، نصير الحركة الوطنية وصديق مصطفى كامل وعدو الاحتلال البريطاني ؛ ولأحمد فؤاد ، أول ملك للمملكة المصرية المستقلة ومصدر دستور 1923 ، ولفاروق ، الملك الشاب الذي أقرضت  مصر في عهده بريطانيا العظمى .يضاف إلى ذلك بالطبع الايجابيات التي تحققت إبان فترات حكم كل من  نجيب وعبد الناصر والسادات ومبارك . ولا يعني ذلك تقديس أي من هؤلاء الحكام ولا تجاهل أخطائهم .
                               
   أخيرا ،  لقد آن الأوان للتخلي عن آفة ابتلي بها المصريون ، وتتمثل في الاعتقاد بأن الإشارة الى ايجابيات أحد الحكام ينتقص من نظيراتها لدي غيره . لقد اجتهد هؤلاء الحكام جميعا لتحقيق نهضة مصر ورفعتها ، وكان نصيب البعض منهم أكثر من غيره . ويجب أن يكون التحليل الموضوعي قائما على قواعد لا خلاف عليها مثل المقارنة ببن أوضاع مصر  الاقتصادية والاجتماعية يوم تولي كل من حكام مصر السلطة  ويوم مغادرته الحكم . وثمة مؤشرات اقتصادية واجتماعية تنشرها مؤسسات دولية مرموقة ، يمكن من خلال تحليلها التوصل إلى حجم ايجابيات وسلبيات حكام مصر السابقين  ، دون الانحياز إلى أحدهم أو التجني على آخرين .