المركز العربي للبحوث والدراسات : من الشرعية الثورية إلى داعش: سياسات الثوار العرب وتمهيد السبيل أمام الدواعش (طباعة)
من الشرعية الثورية إلى داعش: سياسات الثوار العرب وتمهيد السبيل أمام الدواعش
آخر تحديث: الأحد 26/06/2016 11:41 ص د.محمد صفي الدين خربوش
من الشرعية الثورية
تستخدم في الكتابات العربية تعبيرات غير علمية لا يتوقف أحد عند تفنيدها، ويشيع استخدامها، لا سيما في وسائل الإعلام ولدى غير المتخصصين. ويظن البعض أن تكرار استخدامها يعني الاعتراف بعلميتها، ويشرع البعض في "التنظير" لها، وكتابة المقالات والأبحاث بشأنها، وقد نجد من يعرِّف نفسه باعتباره متخصصاً في مثل هذه التعبيرات.
   ومن هذه التعبيرات "الغريبة" ولا أقول "اللقيطة" تعبير "الشرعية الثورية"، الذي لا وجود له إلا في مخيلة الطغاة والمستبدين المتعطشين لسفك الدماء،  وحرمان البشر من الحقوق التي منحها لهم الخالق. يستوي في ذلك "زعماء" الثورة الفرنسية الكبرى، الذين استمرءوا مشاهد المقصلة، مع هتلر وموسوليني وستالين وبول بوتوغيرهم من أنصار "الشرعية الثورية" المزعومة.
وقد ابتليت المنطقة العربية، لاسيما خلال الخمسينيات والستينيات، بعدد وافر من      "الزعماء الثوريين"، الذين أرسلتهم العناية الالهية للقضاء على التخلف و"الرجعية" وعلى الفقر والجهل والمرض، بالإضافة إلى تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني عميل "الامبريالية". وباسم "حماية الثورة" من أعدائها، شرع الزعماء الثوريون ينكلون بفئات واسعة من الشعوب العربية، بغض النظر عن انتماءات هؤلاء المواطنين، فيصادرون ثرواتهم، ويضعون أيديهم على ممتلكاتهم، ويقذفون بهم في غيابات السجون والمعتقلات، بل وإعدام بعضهم، من أجل حماية الثورة من أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج.
   وقد وجد هؤلاء الزعماء "الثوريون" من يزين لهم أعمالهم، خوفاً أو نفاقاً أو طمعاً في مغانم أو كل ذلك. ووجد هؤلاء المزينون من الخائفين والمنافقين والطامعين، ضالتهم في "الشرعية الثورية" المزعومة. ومن المؤسف أن بعضاً من هؤلاء "المروجين" و "والمبررين"  كانوا من الأساتذة الجامعيين ومن المفكرين والكتَاب "المرموقين"، حسب وصف البعض.
     لقد شاعت آنذاك أن الثورة المظفرة في خطر، وأن أعداءها في الداخل والخارج يتربصون بها، وأن المؤامرات الداخلية والخارجية للقضاء عليها لن تتوقف. وحيث لم تجد زمرة الخائفين والمنافقين والطامعين في القوانين العادية أي مبرر لجرائم من قبيل فرض الحراسة والاعتقالات الجزافية والمحاكمات غبر العادلة، والتي تصل العقوبات فيها حد الإعدام، وغير ذلك من الاجراءات الاستثنائية، أي غير القانونية؛ تصدرت مقولة "الشرعية الثورية" المشهد طيلة عقود من التاريخ العربي الحديث والمعاصر .

أن النظام السياسي يجب أن يتمتع بنوعين من الشرعية، تتمثل أولاهما في الشرعية الدستورية أو القانونية
أولا: شرعية النظم السياسية
ومن المتفق عليه بين الدارسين والمتخصصين أن النظام السياسي يجب أن يتمتع بنوعين من الشرعية، تتمثل أولاهما في الشرعية الدستورية أو القانونية، بمعنى أن تكون طريقة وصول الحكام إلى السلطة قد تمت بطريقة تتسق مع الدستور القائم ولا تتناقض معه. ويطلق البعض على هذا النوع من الشرعية "المشروعية"، انطلاقاً من ضروررة أن تكون طريقة وصول الحاكم أو الحكام إلى السلطة طريقة مشروعة، أى متسقة مع الدستور.
وبالرغم من أن  أسلوب الوصول إلى السلطة في النظم الديمقراطية يكون مشروعاً ومن خلال انتخابات دورية لرئيس الجمهورية، في النظم الرئاسية وشبه الرئاسية، ولأعضاء البرلمان في جميع النظم، حيث تنبثق الحكومة في النظم البرلمانية؛ فقد تم استخدام "الشرعية السياسية" بمعنى رضا المحكومين،أو أغلبيتهم، عن أداء الحكام، الذين كانت طريقة وصولهم إلى السلطة في النظم الديمقراطية باليقين شرعية أو مشروعة، أي وفقا للدستور. وكان مرد ذلك إلى احتمال "انحراف" الحاكم،أو الحكام، عن الالتزام ببرنامجه الانتخابي أو ارتكابه أخطاء جسيمة لا تتسق مع القيم المستقرة في المجتمع. ويعني ذلك أنه إذا كان من الضروري أن يصل الحكام السلطة بطريقة مشروعة (الشرعية الدستورية أو المشروعية) ، فان استمرارهم في ممارسة السلطة حتى انتهاء مدتهم الدستورية يظل رهناً برضا المواطنين (الشرعية السياسية).
وكان الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول قد ترك منصبه وأصر على الاستقالة قبل استكمال مدته الرئاسية الثانية، عندما لم تصل نسبة الموافقة على مقترحاته في الاستفتاء العام إلى النسبة التي حددها، برغم موافقة أغلبية المشاركين في الاستفتاء. وأقدم الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون على الاستقالة في منتصف مدته الرئاسية الثانية بسبب اتهامه بالكذب، لإخفائه علمه بالتنصت على مقر الحزب الديمقراطي المنافس. كان كل من ديجول ونيكسون قد فاز في الانتخابات لمدة رئاسية محددة، إلا أن تراجع شرعية كلاً منهما السياسية كانت السبب في تقديم الاستقالة.
وبينما يقدم الرؤساء المنتخبون في النظم الديمقراطية، استقالاتهم في حالة فقدان الشرعية السياسية أو اهتزازها بالرغم من تمتعهم بالشرعية الدستورية؛ استمرأ الحكام "الثوريون" استخدام مقولة "الشرعية الثورية" المزعومة، بالرغم من فقدانهم لكل من الشرعية الدستورية والشرعية السياسية. وقد تكاثرت عائلة الشرعية الثورية المزعومة؛ فأصبح لها بنين وحفدة، مثل الإعلانات الدستورية والقوانين الثورية ومحاكم الثورة أو المحاكم الثورية.
وشهدت كل من سورية ومصر والعراق واليمن والجزائر والسودان وليبيا في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات سيطرة "الثوار" علي السلطة في دمشق والقاهرة وبغداد وصنعاء والجزائر العاصمة والخرطوم وطرابلس الغرب. وقد أبدعت كل مجموعة من "الثوار" في تعزيز السيطرة على مقاليد السلطة والقضاء على المعارضين من خلال تلك "الشرعية المزعومة".  

مثلما فشلت النظم "الثورية" والزعماء "الثوريون" في تحقيق أي من الأهداف الكبرى التي ادَّعت تحقيقها خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لم يجد "الثوار العرب الجدد" سوى ا
ثانيا: الشرعية في الخبرة التاريخية العربية
زخرت هذه الحقبة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر بانتهاكات مروَّعة لحقوق المواطنين العرب؛ قبل أن تنشأ في المنطقة الجماعات التي تدعي الدفاع عن حقوق الانسان. فقد تم إعدام ملوك ورؤساء جمهوريات ورؤساء وزراء ووزراء وعائلات بعضهم ومواطنين عاديين، دون محاكمات أو بعد محاكمات "ثورية" لم يكن لأي من أعضاءهذه المحاكم أي علاقة بالقضاء. ففي إحدى الحالات، تم إعدام عاملين اثنين في أحد المصانع بسبب اتهامهما بالمشاركة في تظاهرة.
وفي حالة أخرى، تم قتل الملك وأفراد عائلته في حديقة القصر. وفي حالة ثالثة، تم عقد المحاكمات "الثورية" في الشارع، وصدرت الأحكام في دقائق وتم تنفيذ أحكام الاعدام فورا أمام "الثوريين" المتجمهرين للاستماع إلى صدورالأحكام، ولمشاهدة تنفيذها والهتاف ضد الخونة احتفاء باعدامهم. وفي حالة رابعة، تم إعدام طلاب في إحدى الجامعات العربية وتعليق جثثهم داخل حرم الجامعة، كي يشاهدها الطلاب والأساتذة والعاملون في مستهل اليوم الدراسي. وفي حالة خامسة، تم تعليق بقايا جثة أحد المسؤولين السابقين على مبنى وزارة الدفاع ثم حرقها.
وفي حالة سادسة، تم إعدام  رئيس سابق داخل مبنى الإذاعة في نهار رمضان وتم منعه من شربة ماء قبل إعدامه، وتمت تسجيل هذا المشهد وإذاعته احتفالاً بالنصر المؤزر. وفي حالات متعددة أخرى، لم يتردد الزعماء "الثوريون" المسيطرون على السلطة في إعدام أوتصفية رفاقهم السابقين، عندما اختلفوا على اقتسام مغانم "الثورة".   
ومن منطلق الشرعية الثورية المزعومة، تم إلغاء الدستور القائم، وإصدار "إعلانات دستورية" لا تستند إلى أي شرعية، والوعد بإصدار دستور جديد يعبر عن "الثورة"، وإصدار حزمة من القوانين من قِبل عدد من الأفراد "الثوريين" الذين اغتصبوا سلطة التشريع نيابة عن الشعب.وبذريعة الثورية، ومن منطلق الحقد على أصحاب الملكيات الخاصة، تم الاستيلاء على ممتلكات الأفراد، سواء أكانت أراضي زراعية أم شركات خاصة أم مؤسسات خدمية أم بنوكاً وطنية أم مؤسسات صحفية.
وقد ظن البعض أن هذه السمات "الثورية" قد توارت وأضحت من الماضي، وأن المواطنين العرب لن يشاهدوا في أوائل القرن الواحد والعشرين، ما شاهده أجدادهم وآباؤهم لاسيما في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. بيد أن هذا القرن الجديد قد شهد عودة هذه الممارسات الوحشية في صور تشبه نظيراتها في القرن الماضي، إن لم تفقها.

ثالثا: الشرعية في القرن الجديد
بدأ القرن الجديد بغزو أمريكي للعراق، أعقبه محاكمات لأركان النظام السابق، من قِبل مناوئيه، وأصدرت هذه المحاكم أحكاماً عدة، كان في مقدمتها حكم بإعدام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. وتم تنفيذ الحكم صبيحة يوم عيد الأضحى. ثم جاء الربيع "المزعوم" ليطلق كل المشاعر الدموية من عقالها. فباسم "الثورة" وعلى أيدي "الثوار"، تم الهجوم على السجون وأماكن احتجاز الخارجين على القانون والاستيلاء على الأسلحة، وتم قتل أفراد الشرطة والجيش. واعتبر المقتولون من مهاجمي السجون وأماكن احتجاز الخارجين على القانون "شهداء" باعتبارهم "ثواراً"، في حين تمت محاكمة أفراد الأمن الذين أدوا واجبهم في الدفاع عن المواقع المكلفين  بحراستها، باعتبارهم "قتلة".
وفي إحدى الحالات، تم قتل رئيس الدولة بعد إلقاء القبض عليه من قِبل "الثوار". وفي حالة أخرى، تم تنظيم محاكمات "شعبية" في الشوارع، علقت فيها دمي لمسؤولين سابقين، وأصدر "الثوار" أحكاماً بالإعدام المفترض. وكما تكاثر المنافقون والطامعون والخائفون في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، شارك بعض القضاة السابقين وأساتذة جامعات والمحامين في مثل هذه المحاكمات "الشعبية"؛ إنه التوق إلى "المحاكمات الخاصة" التي عقدها "ثوريو" الخمسينيات والستينيات لإعدام معارضيهم.
وفي حالة فريدة، أصدر الرئيس المنتخب، الذي كان مرشح "الثوار" في جولة الإعادة،  بعد القضاء على النظام القديم "المستبد"، ما سماه "إعلاناً دستورياً"، وتضمن هذا الإعلان تشكيل "محاكم ثورية خاصة" تعيد المحاكمة في القضايا التي تم الفصل فيها، أو كانت قيد التداول، في محاكم عادية. وكان أحد زعماء"الثوار" من مؤيدي هذا الرئيس المنتخب قد هدد بتعليق المعارضين على أعواد المشانق، وسخر زعيم ثوري آخر من المؤيدين بأن على المعارضين أن "يحمدوا ربهم لأنهم ما يزالون على قيد الحياة". كانت هذه ممارسات الرئيس الثوري المنتخب بعد "الثورة" ومؤيديه.                  
ودأب "الثوريون العرب" وبعض المنافقين والطامعين من "النخبة السياسية والفكرية" على مهاجمة طريقة محاكمة من وجَّه إليهم "الثوار" اتهامات بالقتل أو بالفساد أو بغير ذلك من الجرائم، على أساس أن محاكمتهم تتم وفقا لاجراءات القضاء " العادي " . وطالب بعض هؤلاء بضرورة تنظيم محاكمات " استثنائية أو خاصة أو ثورية "، وطالب البعض بإعدام هؤلاء المتهمين ، ورفضوا قبول أي عقوبة سوى الاعدام. إنه التعطش للدماء في أبشع صوره، بما يعيد إلى الأذهان ذكريات روبسبير ورفاقه الذين كانت تطربهم رؤية مشهد المقصلة وقد علقت بها الجثث.
ومثلما فشلت النظم "الثورية" والزعماء "الثوريون" في تحقيق أي من الأهداف الكبرى التي ادَّعت تحقيقها خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي،  لم يجد "الثوار العرب الجدد" سوى الفشل الذريع في كل الملفات المحلية والاقليمية والدولية.
لقد أقدم "الزعماء الثوريون" الذين سيطروا على عدد من العواصم العربية الرئيسية على اتباع سياسات عامة "ثورية" وإجراء محاكمات ثورية، وإعدام واعتقال المعارضين حتى من أصدقائهم. وقد سلم هذا الجيل إلى الجيل اللاحق دولاً في حالة شديدة السوء مقارنة بالحالة التي كانت عليها هذه الدول عندما سيطر "الثوار" على مقدراتها، وقضوا على "النخبة الرجعية" المرتبطة بالامبريالية العالمية.
وأقدم الثوار العرب في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين على سياسات إقصائية، مثلما فعل أسلافهم، لكن "الاجراءات الثورية" قد أصبحت أكثر تطوراً، كي تتسق مع التطورات الحديثة وتواكب التقدم في أساليب العنف وطرائق التدمير. فلا مانع من استخدام الطائرات والدبابات والمدافع في القضاء على الخصوم، حيث سيطر"الثوار" على الغنائم التي تركها جيش النظام، حل القتل الجماعي محل الإعدامات الفردية أو الاعتقالات أو تحديد الإقامة أو النفي خارج البلاد.
وكما فشل ثوار الخمسينيات والستينيات فشلاً ذريعاً في تحرير فلسطين وفي القضاء على إسرائيل "المزعومة"، حيث توسعت الأخيرة وتعززت قدراتها وابتلعت كامل أراضي فلسطين واحتلت أجزاء من الأراضي المصرية والسورية والأردنية واللبنانية. وبفضل الثوار الجدد والقدامى، أصبحت إسرائيل تتمنع عن التنازل عن أقل من ربع فلسطين التاريخية، وتضع شروطاً للقبول بالسلام مع العرب، وتسير قدماً في تشييد المستوطنات في الضفة الغربية وفي تهويد الأحياء العربية من مدينة القدس. ومن الجدير بالذكر أن الفشل في التعامل مع إسرائيل كان إحدى الذرائع الرئيسية التي تذرَّع بها كل من الثوار القدامى والجدد للانقضاض على النظم "البالية" والقضاء عليها.
أقدم الثوار العرب في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين على سياسات إقصائية، مثلما فعل أسلافهم، لكن "الإجراءات الثورية" قد أصبحت أكثر تطوراً، كي تتسق مع التطورات الحديثة وتواكب ا
رابعًا: داعش وسايكس-بيكو جديد
وقد ظل  ثوار الخمسينيات والستينيات يهاجمون إتفاقية  سايكس-بيكو التي قسَّمت العرب ورسمت حدوداً "مصطنعة"  بين الأقطار العربية، وسعوا لتحقيق الوحدة العربية المأمولة. وقد فشل هؤلاء في تغيير هذه الحدود، بينما نجحت إسرائيل في ذلك باحتلالها فلسطين بأكملها وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان واحتلت بيروت وأجزاء من الجنوب اللبناني لبعض الوقت. واتسمت العلاقات بين الدول العربية "الثورية" معظم الأحيان بالتوتر والعداء.  
وبعد مائة عام من اتفاق سايكس-بيكو؛ تواضعت آمال العرب فأصبحت قمة  طموحاتهم أن يتم الحفاظ على الحدود التي اصطنعها سايكس وبيكو سيئا الذكر. فبفضل الثوار الجدد، أصبحت هناك شكوك قوية في بقاء كل من سورية واليمن وليبيا، بالإضافة إلى العراق، كدولة موحدة. وكما كان لإسرائيل السبق في تعديل اتفاق سايكس-بيكو في النصف الأخير من القرن العشرين، فقد انتقل هذا السبق، في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، إلى تنظيم "داعش" بزعامة البغدادي؛ إلى جانب تنظيمات أخرى كردية وشيعية وغيرها في العراق والشام واليمن.
لم يكن للشرعية الثورية المزعومة أن تسفر سوى عن الإعتداء على الحريات العامة والفردية، والتدهور الاقتصادي والتوترات الإجتماعية، وشيوع شهوة الانتقام والثأر والابتهاج بمشاهد الدماء، والتعامل مع المعارضين السياسيين باعتبارهم أعداء يجب القضاء عليهم، والنظر إلى التنافس السياسي باعتباره معركة حربية تسعى الأطراف المتنافسة فيها إلى قتل بعضهم بعضاً.
يمكن القول أن  "داعش" تعتبر نتاجاً طبيعياً لخطاب عربي "ثوري" سواء في الخمسينيات والستينيات، أو في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. ألم يبرر الثوار العرب القدامى والجدد كل السياسات والقرارات "الجائرة" بحق أعدائهم ومنافسيهم من منطلق "الشرعية الثورية"؟. ألم يقدم الثوار على إلغاء الدساتير أو تعليق العمل بها ثم إصدار إعلانات دستورية؟. ألم يقدم الثوار على إصدار قوانين استثنائية وإجراء محاكمات ثورية وإعدام الحكام السابقين ومعارضيهم وحتى أصدقأئهم المقربين، في الشوارع أو في حديقة القصر الملكي؟ ألم ينظر الثوار العرب دائماً باحتقار إلى القانون باعتباره عائقاً أمام تطبيق سياساتهم غير القانونية؟. ألم يتبارى بعض أساتذة التاريخ وكبار الكتاب والصحفيين في تمجيد الزعماء الثوريين التاريخيين وفي إهالة الثرى على جميع الحكام السابقين والحط من شأنهم ونعتهم بأسوأ النعوت؟!.
ليست داعش وأخواتها سوى نسخة معدلة من "الثوريين العرب" القدامى والجدد. لقد أقدم هؤلاء من قبل على إعدام ملك في حديقة قصره هو وعدد من مرافقيه العزل وبينهم نساء، وعلى قتل رئيس وزراء سابق في الشارع بدلاً من إلقاء القبض عليه، وعلى تعليق بقايا جثة وصي سابق على العرش على مقر وزارة الدفاع، ومنع رئيس جمهورية من شربة ماء وهو صائم قبيل إعدامه دون محاكمة، وعقد محاكمات "ثورية" لإعدام بعض المعارضين الحقيقيين أو المتوهمين، وإعدام البعض في الشوارع والساحات والاحتفال بذلك، واغتيال المعارضين داخل الوطن أو خارجه.
واستحل هؤلاء الثوار العرب لأنفسهم الاستيلاء على الممتلكات الخاصة بذرائع واهية، وفرض الحراسة على بعض المواطنين، واعتقال الآلاف أوتحديد إقامتهم، وكان من هؤلاء أول رئيس جمهورية بعد العهد الملكي، أو نفيهم من البلاد. وأقدم هؤلاء على تزييف التاريخ وكأن تاريخ البلاد لم يبدأ إلا مع سيطرة هؤلاء "الزعماء التاريخيون" على السلطة.وقد كان هذا يثير السخرية في بلاد يمتد تاريخها إلى آلاف السنين.
    لقد نسي العرب، الذين فوجئوا بتمدد داعش وأخواتها، أو تناسوا، أن بعضاً من أجدادهم وآبائهم قد هلَّلوا للمجازر التي أٌرتكبت على أيدي الزعماء "التاريخيين الثوريين" خلال النصف الأخير من القرن العشرين. ونسي العرب، الذين مافتئوا يشاهدون المذابح  المرعبة التي ترتكبها داعش وأخواتها، أو تناسوا أن الثوار والمنافقين والطامعين والخائفين وغيرهم، ظلوا يطالبون بمحاكمات "ثورية استثنائية" لكي تصدر أحكاماً جماعية بالإعدام على منافسيهم وأعدائهم من أبناء الوطن؛ واستنكروا على الدوام إجراء محاكمات قد تنتهي بالبراءة او بأحكام بالسجن؛ ناهيك عن المئات بل والآلاف الذين  تم اعتقالهم أو حبسهم احتياطياً، وثبتت براءتهم فيما بعد.
ما الفارق إذن بين إعدامات داعش الإجرامية المرعبة، وبين مطالبات سياسيين وأساتذة جامعات وقضاة سابقون ومفكرون وكتاب واعلاميون وأدباء وشعراء؟ ولو قٌدِّر لمثل هؤلاء أن يحظوا بالسلطة التي تتمتع بها داعش، لم تكن سياساتهم لتختلف كثيراً عن سياسات داعش التي يستنكرها الجميع. ليس من المثير للدهشة القول بثقة أن داعش وأخواتها هي التطور المنطقي للنسختين القديمة والمعاصرة من "الثوار" العرب المتعطشين للدماء والمؤيدين للمحاكمات "الاستثنائية" التي لا تعرف إلا أحكام الإعدام، والمبتهجين برؤية الجثث المعلقة، على المقاصل في الساحات العامة، أو على المباني الحكومية، أو في حرم الجامعات.