المركز العربي للبحوث والدراسات : سيدة الكرم: وتخريب العلاقة بين الأقباط والمسلمين (طباعة)
سيدة الكرم: وتخريب العلاقة بين الأقباط والمسلمين
آخر تحديث: الإثنين 30/05/2016 11:46 ص د. أحمد موسى بدوي
سيدة الكرم: وتخريب
اهتزت مشاعر المصريين وثقتهم في أنفسهم، عقب حادث التعدي على سيدة قبطية عجوز، وتمزيق ملابسها وتعريتها أمام حشد كبير من الناس في إحدى قرى محافظة المنيا، الحدث صادم لأنه بلا سابقة، وهو خطير لأنه ينقلنا لطور آخر من أطوار العلاقة بين الأقباط والمسلمين في مصر، فهل صدور هذا الفعل الهمجي البدائي محصلة تغير حاصل في الحس العام للمصريين، أم أنه طارئ مدفوع بقصدية تأجيج فتنة طائفية تحاول الدولة المصرية إخمادها بعد ثورة 30 يونيه.
لم تشذ العلاقة بين الأقباط والمسلمين، عن قاعدة التعايش السمح منذ دخول الإسلام مصر
أولا: لغة واحدة وديانتين
كانت مصر تحت الاحتلال الروماني وقت دخول المسيحية في عام 48م، ومع أن النظام الحاكم كان مناهضاً بشدة للمسيحية إلا أنها انتشرت في مصر في وقت قياسي رغم اضطهاد الرومان للمصريين.وحتى بعد أن تحولت الإمبراطورية البيزنطية إلى المسيحية في عام 312م، حاول الرومان هذه المرة فرض مذهبهم "الخلقوني" على المصريين، ولم يتنازل المصريون عن عقيدتهم الأرثوذكسية (اليعقوبية). رغم الاضطهاد الذي مورس ضدهم، ومصادرة كنائسهم وأديرتهم وأملاكهم.
وفتحت مصر في عام 642م بعد معاهدة سلام بين الرومان وعمرو بن العاص، فلم يُكْرِه الحاكم الإسلامي المصريين على تغيير ديانتهم، بل على العكس أمنهم على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم. وبسبب هذه الحرية الدينية، كان تحول المصريون إلى الإسلام بطيئا، واستمر قرابة القرنين ونصف القرن. وقد تعلم المصريون اللغة العربية قبل أن يتحول أكثريتهم إلى الإسلام، وأبدى المصريون جميعا مرونة في استخدام العربية في أمور حياتهم الرسمية وغير الرسمية، بدليل قرار البطريرك غبـريـال بن تريك في القرن الثاني عشر الميلادي، القاضي باستخدام اللغة العربية في صلاة القداس وكافة الخدمات الكنسية. ومنذ ذلك التاريخ أصبح لمصر لغة واحدة وديانتين.

ثانيا: العلاقة التاريخية بين الأقباط والمسلمين
لم تشذ العلاقة بين الأقباط والمسلمين، عن قاعدة التعايش السمح منذ دخول الإسلام مصر، وتشير الوثائق التاريخية أن القبط كانوا يشركون المسلمين معهم في الشهادة أمام المحاكم الرسمية أو العرفية، والتوقيع على عقود البيع والشراء، وحجج الوصايا، وحتى عقود الزواج. واستعان بهم الولاة في تسيير الأمور الإدارية للدولة، ولكنهم ظلوا خارج المؤسسة العسكرية والتزموا بدفع الجزية.
وفيما يتعلق بممارسات الحياة اليومية، فتذكر المصادر التاريخية أن الأوامر التي صدرت مرارا وتكرارا في مختلف عصور الحكم الإسلامي، من أجل تحريم لبس العمائم على الأقباط والالتزام بلبس المنطق – حزام من الجلد يربط على البطن-  والإمساك بالصلبان الخشبية أثناء التجوال في الأسواق، وغيرها من الالتزامات التمييزية. سرعان ما كان يبطل أثرها، وتعود الحياة الاجتماعية إلى مجاريها الطبيعية.ما يعني أن هذه الأوامر خالفت الحس العام، خاصة في الأوساط الشعبية في الحضر والريف، فلم يحرص الولاة على التشدد في تطبيقها.
ولا يعني ذلك أن العلاقة بين الأقباط والمسلمين كانت خالية من التوترات وأحيانا الصراعات، فالخلافات بين الجماعتين تنشب بين الحين والحين، بسبب كراهية بعض الولاة والخلفاء لأهل الذمة والقبط على نحو خاص، (الحاكم بأمر الله نموذجا)، أو بسبب الصراع على المناصب، خاصة وأن الكثير من أعمال الدواوين وشئون الحكم والوظائف المالية كان يتولاها موظفون مهرة من الأقباط، ما يثير في كل عصر حنق الطامعين في تولي هذه المناصب. كما كانت عمليات تعمير الكنائس القديمة أو بناء كنائس جديدة، تثير التوتر والنزاع بين المسلمين والأقباط، حتى لو كانت عملية البناء أو الترميم مصرح بها رسميا من قبل الوالي.  وما تزال هذه المشكلة قائمة حتى الوقت الراهن.

أن محمد علي هو الذي قضى مبدئيا على التفرقة بين القبطي والمسلم، وزاد الوالي سعيد باشا بإزالة معظم العقبات التي تحول دون الاندماج الكامل للأقباط في صلب الأمة
ثالثا: مصر الحديثة وحقوق الأقباط
تعاطى المصريون مع النهضة الأوربية والتحدي الحضاري الذي تمثله، بإفراز أربعة تيارات كبيرة، أعادت تشكيل رؤية المصريين لأنفسهم وللعالم المحيط على نحو مختلف هي: التيار الديني الإصلاحي  وعلى رأسه الشيخ محمد عبده الداعي إلى تحديث الإسلام باستخدام العقل، ثم تيار أحمد لطفي السيد الذي حاول تبني الإطار الليبرالي الأوروبي بالكامل بغض النظر عن التراث، أما التيار الثالث، فيمثله سلامة موسى، والذي دعا إلى التصنيع والتكنولوجيا والاشتراكية. في مقابل تيارديني محافظ، يعتمد منهجاً خاصا في الغيبيات والعبادات والمعاملات، ينظر بريبة لكل من يخالفه في المذهب والديانة.
ومن الثابت تاريخيا، أن محمد علي هو الذي قضى مبدئيا على التفرقة بين القبطي والمسلم، وزاد الوالي سعيد باشا بإزالة معظم العقبات التي تحول دون الاندماج الكامل للأقباط في صلب الأمة، بقراراته غير المسبوقة بقبول الأقباط في الجيش، وتطبيق قانون الخدمة العسكرية عليهم،وإلغاء الجزية المفروضة على الذميين بالفرمان الصادر في 1855. وفي عصر الخديوي إسماعيل نال الأقباط حقوقهم السياسية والاعتبارية بموجب قانون إنشاء مجلس الشورى في 1866، الذي منحهم الحق في عضوية مجلس الشورى أسوة بالمسلمين، بالإضافة إلى تعيين قضاة من الأقباط في المحاكم، فضلا عن أن إسماعيل هو أول حاكم يمنح لقب الباشوية لواحد من الأقباط.
تعاطى الأقباط مع الأحداث الكبيرة التي شهدتها في عصرها الحديث بقدرٍ كبيرٍ من المسئولية الوطنية، مشاركين في ثورة عرابي، ومقاومة الاحتلال البريطاني منذ عام 1882، مرورا بالمشاركة في ثورة 1919 وحتى قيام ثورة يوليو1952، فخلال تلك الأحداث كان الأقباط سباقين في سد الذرائع وإغلاق أبواب الفتنة بعقلانية وصبر كبيرين، ندلل على ذلك بموقفين: الأول حين كلفت سلطة الاحتلال البريطاني يوسف وهبه القبطي لكي يشكل أول حكومة تحت الاحتلال. فكان رد فعل الجماعة القبطية سريعاً بأن قام أحد شباب الأقباط باغتيال يوسف وهبه. والموقف الثاني عن دور الأقباط في ثورة 1919، وتلخصه المقولة الشهيرة للقس سرجيوس من فوق منبر الأزهر: إذا كان الانجليز هم الذين سيحمون الأقباط، فليمت كل الأقباط ولتحيا مصر حرة مستقلة.
وبعد ثورة يوليو 1952، انشغل عبد الناصر على المستوى الداخلي بمشروع التنمية الأول وتحقيق العدالة الاجتماعية على النهج الاشتراكي، وإعادة توزيع الثروة عبر قرارات التأميم المعروفة. ولم يسمح بظهور النعرات الطائفية، وكانت تربطه بالبابا كيرلس علاقة صداقة وتفاهم عميقين. ويذكر في هذا المقام تبرعه بالمساهمة في بناء الكاتدرائية الكبيرة بالعباسية، ورخص للأقباط ببناء وترميم 25 كنيسة سنويا، ويذكر أنه لم تحدث أية حوادث طائفية كبيرة في عهده. ومع ذلك فقد كان عبد الناصر مبالغا في عدم استفزاز القوى الدينية المحافظة، فاقتصد في تعيين الأقباط في المناصب العليا.
ثم حدث تدهور كبير في العلاقة بين الأقباط والمسلمين، في عصر السادات،  فقد أضر بمسألة الاندماج الاجتماعي للأقباط، وحاول حل مشاكله مع القوى السياسية باللعب على وتر الدين، بتمكين الجماعات الإسلامية وجماعة الإخوان من الجامعات والنقابات، والوقوف خلفها ودعمها. ما أدى إلى تأسيس الفتنة الطائفية في مصر، وإلى استسهال الاعتداء على أعراض وممتلكات الأقباط، فتواترت أحداث العنف الطائفي طوال عصر السادات، خاصة في أقاليم الصعيد (جنوب مصر)، ثم انتقل العنف إلى قلب القاهرة في أحداث الزاوية الحمراء قبيل اغتيال السادات بشهور.
وبعد اغتيال السادات اتضح للجميع أن الجماعات المتطرفة قد توغلت في الصعيد، وأنها أكبر حجما وأعلى طموحاً مما ظنت الأجهزة الأمنية في مصر، فالاغتيال لم يكن هدفا وحيداً، بل كان التخطيط لقيام ثورة إسلامية تبدأ من أسيوط، وتتحرك شمالا حتى السيطرة على العاصمة. وبالفعل تمكن القيادي الجهادي ناجح إبراهيم في التحرك لاحتلال مديرية أمن أسيوط ، ونجح  يوم 8 أكتوبر في احتلالها بعد معركة شرسة، قتل فيها 82 ضابط وجندي ، واستطاع الجيش بعد عدة أيام من إعادة السيطرة على المديرية مرة أخرى.
وعرفت مصر بعد هذا التاريخ موجة ضخمة من العنف بدأت بمعارك يومية ضارية بين الأمن والجماعات الجهادية، ثم تحولت  هذه الجماعات إلى  أسلوب الاغتيالات، فمهاجمة السياح وضرب الاقتصاد، ثم تأجيج العنف الطائفي بكل وحشية، بلغت ذروة هذا التأجيج بالفتوى التي أصدرها عمر عبد الرحمن أمير الجماعة الإسلامية في التسعينيات، باستحلال نهب محلات الذهب الخاصة بالأقباط لتمويل الجماعة.وبطبيعة الحال لم تتوقف الأمور عند حد محلات الذهب، ولكنها امتدت لتشمل عمليات نهب واعتداء على الجماعة القبطية في الأماكن التي تغيب فيها سيطرة الأمن، ما أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من الأسر المسيحية من أماكن التوتر في أسيوط والمنيا.

استمر التوتر في الشارع والصراع محتدم على الهوية بشكل لم تشهده مصر من قبل، ما أدى إلى تفاقم الأحداث الطائفية في فترة ما بعد الثورة
وحدثت انفراجه مؤقتة في نهاية التسعينيات بعد إعلان مبادرة وقف العنف عام 1997، التي وقعها قادة الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد، انخفضت على إثرها كافة العمليات الإرهابية ومن بينها الحوادث الموجهة ضد الأقباط، ثم عادت للظهور مرة أخرى بعد عامين، في حوادث متكررة، تنوعت بين قتل وتدمير وحرق منازل وكنائس، وغالبا ما كانت تتم في احتفالات الأقباط بأعيادهم. ومن أبرز هذه الحوادث: (الكشح 1998، 1999، الإسكندرية في2006، إمبابة في 2007،  نجع حمادي في يناير2010، مطروح في مارس2010، القاهرة في نوفمبر 2010، كنيسة القديسين بالإسكندرية في يناير2011).
وبعد ثورة 25 يناير، تبنت جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها الإخوان المسلمين، خطابا عدائيا ضد الأقباط، يوجه اتهامات صريحة بأنهم يحاربون الإسلام في مصر، بدأ بعد شهر واحد من تنحية مبارك في أثناء الاستفتاء على التعديل الدستوري، واتبعت جماعة الإخوان والجماعات السلفية، أسلوب التخويف والترهيب، بعد أن حولت مناسبة الاستفتاء إلى حرب بين الإسلام والكفر بشكل مطلق. وقبيل وأثناء وبعد الاستفتاء على الإعلان الدستوري، جرت حوادث طائفية إرهابية الطابع،كإحراق كنيسة في الجيزة، والهجوم على كنيسة أخرى في إمبابة، والتحرك في مسيرة جماعية للهجوم على كنيسة ثالثة بنية الهجوم عليها أيضا.
استمر التوتر في الشارع والصراع محتدم على الهوية بشكل لم تشهده مصر من قبل، ما أدى إلى تفاقم الأحداث الطائفية في فترة ما بعد الثورة: أطفيح في مارس2011، إمبابة في ابريل2011، ماسبير وفي  اكتوبر2011، رفح في سبتمبر2012 . وفي أعقاب فض اعتصام رابعة العدوية في 14 أغسطس 2013، قامت العناصر الموالية للإخوان والجماعات الإسلامية بالاعتداء على الكنائس في 22 محافظة   منها 38 كنيسة، تم نهب محتوياتها وحرقها بالكامل.
خاتمة
المرحلة إذن، هي محصلة صراع طويل بين التيار المحافظ وقوى الإسلام السياسي، وبين الدولة ومؤسساتها ونظامها المدني، ظل الأقباط أهم ضحاياه، لسهولة مروق السهم الطائفي في فضاء الرأي العام المصري، وسهولة اللعب على وتر الهوية الدينية لاستدرار العاطفة  وتحفيز المصريين البسطاء للتماهي مع الأفكار الدينية المتزمتة.
وفي الوقت الذي بدأت فيه مصر تتعافى من آثار هذه الأزمات الطائفية بعد انتخاب الرئيس السيسي الذي يتبنى إستراتيجية تجاه الأقباط تلقى قبول وتقدير غالبية المصريين، نفاجئ بحادث سيدة الكرم، ليكشف لنا أن صناعة الفتنة الطائفية منذ عصر السادات، والعنف الطائفي منذ عصر مبارك وحتى فض اعتصام رابعة العدوية، تركت شروخا في الفطرة السليمة للمصريين،  ولا اعتداد هنا بتبرير بعض الآراء الموتورة، التي تختزل الحادث في قضية شرف، دفعت هذه السيدة العجوز ضريبتها. فلو كان الانتقام للشرف موجه لأسرة مسلمة، لما تجرأ المعتدون على تعرية السيدة المسلمة في حشد من أهالي القرية. ولو كان المدافعون عن شرفهم هم الأقباط وارتكبوا نفس الفعلة الشنعاء، بتعرية سيدة مسلمة، لما ترددت هذه القرية في سفك دماء كل أقباط القرية. لدينا مشكلة طائفية لابد أن نعترف بها، ولدينا تاريخ من العنف الطائفي ترك بصماته الدموية على جدار الحس العام في مصر. ما يعني أن التعافي من آثار هذه الموجات الطائفية الكريهة، يحتاج برامج مختلفة وسياسات بديلة، والتوقف تماما عن حل المشكلات الطائفية بطريقة عرفية، واللجوء للقانون ردعاً وزجراً.