المركز العربي للبحوث والدراسات : من أجل المستقبل: رؤية لبناء القدرة على المنافسة والتشابك الاقتصادي مع العالم (1) (طباعة)
من أجل المستقبل: رؤية لبناء القدرة على المنافسة والتشابك الاقتصادي مع العالم (1)
آخر تحديث: الثلاثاء 05/04/2016 11:06 ص إبراهيم نوار
من أجل المستقبل:
هل نحن بحاجة إلى رؤية جديدة لمستقبلنا الاقتصادي؟ هل نحن بحاجة إلى إستراتيجية للتنمية الاقتصادية؟ هل نرى أنفسنا جزءا من العالم أم نفضل الانعزال عنه وبناء "طريقنا الخاص" إلى المستقبل؟ إلى أي قيم إنسانية ننتمي؟ إلى أي ثقافة ننتمي؟ إلى أي نظام سياسي ننتمي؟ إلى أي نظام اقتصادي ننتمي؟ إلى أي نظام دفاعي ننتمي؟
هذه فترة تاريخية تفيض بالأسئلة التي تصرخ فينا طالبة الإجابة. مصر في مفترق طرق. أمامنا خيارات كثيرة بعضها يقود إلى فضاء رحب خصيب، وبعضها يؤدي إلى سراديب مظلمة. الكلمة لنا..مصر اليوم عليها أن تختار. بيننا من يعتقد إن مثل هذه الأسئلة ليست هموم الناس، وإنما هي هموم شكلية يتكلم عنها المثقفون بغرض إثارة الزوابع والعواصف الكاذبة. بيننا من يعتقد أن هذه الأسئلة والإجابات عنها مكانها رفوف الكتب وصالونات المثقفين وقاعات المؤتمرات التي تتزين بها الدول في بعض المناسبات. لكن دورها يتوقف عند ذلك.
بيننا ممن هم في مواقع المسؤولية ومن الناس العاديين من يعتقدون إننا لسنا في حاجة لمثل تلك الترهات والبدع، فالأمور تسير بقدر. صحيح لدينا فقراء، لكن العالم كله فيه فقراء، حتى في أغنى الدول وأعظمها تقدما. صحيح أننا نتعرض أحيانا لكوارث، ولكن هكذا الحياة، وهاهي الكوارث تقع في كل مكان في الدنيا، كوارث القتلى على الطرق وتصادم القطارات وسقوط الطائرات، فلا عجب أن يكون لنا نصيب منها. صحيح إننا ربما نكون قد تخلفنا عن بعض من حولنا من الأمم، ولكننا لا نزال أمة من أحسن أمم الأرض والتاريخ شاهد على ذلك. صحيح إن لدينا الكثير من التلوث ومن القمامة، ولكن تلك وغيرها هي من أعراض الحضارة الحديثة. صحيح مثلا إن مواطنينا يعانون من تلوث مياه الشرب، ولكن هكذا الحال في كل الدنيا حتى في ميتشجان بالولايات المتحدة الأمريكية. ولا يبالغ في سوءات أمتنا إلا الحاقدون والكارهون!
إذا كنت من أصحاب هذه العقلية، فمن فضلك لا تقرأ هذه الرؤية، فأنت لا تحتاج إليها، ولست في حاجة إلى التفكير في المستقبل أو في اكتشاف قوة الإرادة وقوة الفعل والقدرة على التغيير. أنت قانع مستريح تشعر بالكفاية والرضا، وبأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. فالتحف رضاك واسترح، أو بالبلدي "نام وحط في بطنك بطيخة صيفي"!
أما إذا كنت تؤمن بضرورة وجود رؤية للمستقبل وإستراتيجية للتنمية فأهلا بك. إذا كنت تشعر بالقلق على مستقبل أولادك، وتريد أن تضمن لكل واحد منهم علاجا فعالا وتعليما ناجحا وفرصا للعمل المنتج المبدع وقدرة على تكوين أسرة متماسكة ومتحابة، فأنت تريد الأفضل إذن، حتى لو كان ما تعيشه يبعث على الرضا. إذا كنت تريد لبلدك أن يصبح من "العشرة الأوائل على العالم" في مجالات المنافسة الرئيسية، وأن يصبح اسم بلدك علما من أعلام صناع الحضارة وخير سلف لأجدادك الذين صنعوا حضارة العالم وعلموه الطب والهندسة والفلك والكيمياء، فلا شك في إنك تقلق لأن المستقبل غير مضمون، فكيف إذن يكون القلق إذا كان ما نعيشه الآن لا يبعث على الرضا؟
ما نعيشه الآن كأمة يقترب عددها من 100 مليون إنسان لا يبعث على الرضا، لأننا أصبحنا أكثر فقرا، فارتفعت نسبة الفقراء من أقل من ربع الناس في بداية القرن الحادي والعشرين إلى أكثر من نصفهم، وانحدر مستوى التعليم، وساءت خدمات الرعاية الطبية، وتضاءلت فرص العمل وضاقت خيارات بناء أسرة جديدة لمن بلغوا سن الزواج، فعمت بين الشباب حالة من اليأس والقنوط. وعبرت هذه الحالة عن نفسها في الهروب من الواقع ومن الحياة،إما بـ "الانتحار الاجتماعي" الذي يعبر عن نفسه بالاستهتار واللامبالاة تجاه كل الآخرين وحتى تجاه النفس، وإما بـ "الانتحار العقلي والوجداني" بالهروب إلى الماضي وتغييب العقل تماما والتزام منهج "السمع والطاعة"، وإما بـ"الانتحار البدني" وذلك باختيار الموت تحت عجلات قطار أو في النهر أو في البحر أو شنقا أو حرقا. اختر ما شئت، فالشعور بقسوة الضآلة وبمهانة التهميش يقتل الإنسان الفرد.
ما نعيشه الآن لا يبعث على الرضا، فلا نستطيع اليوم أن نفاخر بأمة تحتل مكانها بعد الموقع العاشر بين الدول الناطقة بالعربية وبعد الموقع المائة بين دول العالم. ما نعيشه الآن لا يبعث على الرضا وقد سبقنا من جاءوا بعدنا إلى طريق المدنية والحضارة، فأصبحنا نستورد الخبرة الزراعية من قبرص ومن إسرائيل، ونطلب منتجات التكنولوجيا من كوريا والبرازيل، ونطلب العمل في الأردن وليبيا والسعودية، ونتعلم لدى غيرنا من بلدان كأن شأن أمتنا أعظم منها بكثير منذ فجر التاريخ، أو منذ بزوغ نور الحضارة الحديثة. ولأن كل ذلك لا يبعث على الرضا، فإن البعض منا يشعر بالقلق، خصوصا وقد تكاثر علينا البلاء بسبب التخلف، وتكاثرت علينا الذئاب بسبب الضعف، وصار مثلنا مثل بقرة ذبيحة تكاثرت عليها الجوارح من كل حدب وصوب.
إن مجرد الشعور بـ "القلق" يعني إدراكا عميقا بأن "التخلف والضعف ليسا قدرا، وإنما هما صناعة". التخلف هما ما فعلنا بأنفسنا وما فعل بنا حكامنا. نحن ندفع الثمن وليس هم، ولذلك فإن "التغيير هو الحل". لكن التغيير هنا لا يعني تغييرا في الأشخاص، ولا يعني انتقالا إستاتيكيا أو ميكانيكيا من حال إلى حال، بتغيير اللافتات والشعارات. إن التغيير هنا يعني "عملية تاريخية" تنضوي تحت جناحيها أنماط القيم والتفكير والثقافة والقيادة والقانون والإدارة والمعاملات اليومية بين الناس والمؤسسات وبين الناس وبعضها بعضا. التغيير إذن ليس انتقالا من حالة (أ) إلى حالة (ب) وإنما هو عملية التفاعل التاريخي بينهما، ومن ثم فإنه عملية لا يتم سلقها أو طبخها. وتتحدد طبيعة التغيير بنمط وطبيعة القيادة وبما تؤول إليها الحال، وليس بما يحاول البعض (خصوصا الساسة وأجهزة الإعلام) افتراضه أو تصدير صورته إلى الناس. ويتحقق التغيير عندما تتحول دوافعه إلى قانون وإلى سياسات وإجراءات ونمط للحياة، يختلف جميعه عما كان عليه في الحالة الأولى التي فرضت ضرورته.

إن مجرد الشعور بـ "القلق" يعني إدراكا عميقا بأن "التخلف والضعف ليسا قدرا، وإنما هما صناعة
وبين الرضا عن الأمر الواقع، وبين القلق من استمراره، ينقسم الناس في إدراكهم لضرورة الحاجة إلى رؤية جديدة للحياة، فلا إستراتيجية بغير رؤية، ولا سياسة بغير قانون. ويعبر التغيير عن نفسه من الناحية الإجرائية من خلال هذه المتغيرات الأربعة، الرؤية والإستراتيجية والقانون والسياسة بحسب الترتيب المذكور ودون فصل ميكانيكي. وبين "الرضا" و"القلق" يدور الصراع، الذي هو في حقيقة الأمر أساس الحياة. وبينما سيدافع "أهل الرضا" عن الأمر الواقع، ويقامون من أجل استمراره، فإن "أهل القلق" سيقاومون الأمر الواقع ويعملون لإسقاطه وإقامة أمر جديد محله.
***
وقبل أن أعرض خطوط رؤيتي، ينبغي أن أسجل هنا عدة ملاحظات افتتاحية تتعلق بالمنهج الذي قامت عليه هذه الرؤية، وهي في حقيقة الأمر ملاحظات ذات طابع "احترازي"، تتحوط لاحتمال  تصنيف هذه الورقة في خانة "الرؤى القاتمة" أو المتشائمة. ويعتقد بعض المحللين إنه من الضروري (تحقيقا للموضوعية من وجهة نظرهم)، أن ننظر للجزء المملوء من الكوب قبل أن ننظر إلى الجزء الفارغ. وهذا المنطق صحيح عندما نناقش حالة إستاتيكية عند نقطة زمنية محددة وداخل نطاق محدد قاصر عن التفاعل تماما. لكن بما أن العالم وظواهره المختلفة وأحداثه ليسوا كذلك، إلا إذا وضعنا لحظة زمنية بعينها داخل أنبوبة اختبار وأدخلناها أحد معامل التحليل معزولة تماما عما سواها (وقد يجوز أن نلجأ إلى ذلك استثناءً)، وبما أن العالم مترابط ويخضع يوميا لعدد لانهائي من التفاعلات، فإن منطق الجزء المملوء والجزء الفارغ من الكوب يتعرى تماما ويسقط.
لذلك فإنني أقول منذ البداية إنني أستصغر شأن من يدعوننا دائما إلى أن ننظر للجزء المملوء من الكوب بقدر نظرنا إلى الجزء الفارغ. وغالبا ما ينتهي بنا أصحاب هذا المنطق إلى تبرير الواقع بكل ما فيه من أخطاء، وإلى نفاق السلطات والمسئولين، وإلى تبرئتهم من سوء الأمور واستمرار العمل بالسياسة التي يمكن أن ينطبق عليها تعبير (business as usual).
إنني لن أنظر إلى الجزء المملوء أو إلى الجزء الفارغ، وإنما سأستعير من المنطق الجدلي فكرة "الميل التاريخي العام" وهو قاطرة التطور، وهو المنطق الذي بناه وطوره هيجل واستعمله كثير من الفلاسفة والمفكرين ومنهم ماركس وبيكيتي في دراساتهم. كما أنني فوق ذلك سألجأ غالبا إلى منطق المقارنة بين الظواهر والمتغيرات المتشابهة أو المتماثلة في البلدان المتشابهة أو المتماثلة عبر فترة من الزمن قد تطول أو قد تقصر. وبذلك فإنني أؤكد هنا على الملاحظات المنهجية التالية:
الملاحظة الأولى: إنني لن أكتفي بدرس تطور المتغيرات مستقلة بذاتها عبر الزمن، بمعنى إنني لن أدرس الظاهرة ثم أقارنها بتطورها من أ إلى أ+1 ثم إلى أ+2 ...وهكذا، ثم أتوقف عند ذلك الحد، فمتغيرات العلم والحياة الطبيعية والاجتماعية ليس كل واحد منها مستقلا قائما بذاته.
وبناء على ذلك فإذا كانت نسبة الفساد في العلاقات بين الدولة والمواطنين تبلغ في لحظة ما 60% فإنني لن أتعامل مع ثلث الكوب المملوء اعتباره مكونا إيجابيا، خصوصا إذا كان الميل التاريخي العام لمعدل الفساد خلال فترة زمنية محددة قابلة للقياس الكمي (سنوات مثلا) يشير إلى أنه يزداد أو إنه يتأرجح حول نسبة الـ 60% صعودا أو هبوطا. وسوف أبني على وجود ميل تاريخي سلبي (أو إيجابي) لمتغير بعينه، مثل العجز التجاري أو العجز المالي، نتائج قوية تدعو إلى تغيير السياسة التجارية أو المالية بالقدر الذي يقطع الاتصال التاريخي لظاهرة العجز قطعا نهائيا، بمعنى الإنهاء النسبي للتلازم بين التجارة والعجز أو بين التمويل والعجز.
الملاحظة الثانية: إنني، عندما يتطلب الأمر، سأرى المتغيرات موضع البحث ليس في علاقتها بنفسها عبر الزمن، ولكن في علاقتها بغيرها من المتغيرات عبر الزمن داخل بيئة معينة أو بلد بعينه (وهو في حالتنا هذه مصر). وسأسعى دائما إلى نسبة المتغيرات موضع البحث إلى متغيرات أشمل، مثل الناتج المحلي الإجمالي.  
الملاحظة الثالثة: إنني سأقارن بين نتائج حركة المتغيرات في مكان وحركتها في مكان آخر أو بيئة أخرى (مثلا مصر مع إسرائيل أو مع كوريا الجنوبية أو مع جنوب أفريقيا وربما مع فيتنام)، من أجل إصدار حكم قيمي على حركة المتغيرات موضع الدراسة في مصر مقارنة ببلدان أخرى متماثلة أو مرت بظروف مشابهة وأهم أسباب اختلاف اتجاه الحركة بينها.
إن عظمة التاريخ هي إنه يعلمنا. ومن الضروري أن نشير هنا إلى أن التاريخ في جوهره يعكس حركة التراكم عبر الاستمرار والاتصال. ويؤدي هذا التراكم إلى التقدم والصعود لحلقات أعلى من النمو. لكن دراسة التاريخ المصري بشكل عام، تدلنا على إن ظاهرة انقطاع الاتصال والوصول في نهاية فترات تاريخية بعينها إلى نقطة تقترب من نقطة الصفر سيطرت على ظاهرة التراكم في مصر. ففي تاريخ مصر الحديث والوسيط وقعت مصر فريسة للاحتلال الأجنبي، وخضعت لقوة تلو الأخرى، وبسبب الاحتلال تم نزح فائض إنتاجها إلى الخارج، وكانت القوة المحتلة هي التي تحدد مستوى الاحتياجات الداخلية، ثم تقوم بنزح الباقي للموطن الأصلي للمحتل. وعاش الفلاحون عند حد الكفاف فلم تتطور الزراعة، ولم تقدر أن تصبح مصدرا للتراكم التجاري والرأسمالي. إن الميل التاريخي العام في مصر خضع على مر قرون عديدة لسيطرة القوى المحتلة، فتدهورت أحوال مصر إلا في فترات استثنائية، عاد بعدها الانقطاع ليفصل بين مصر وبين القدرة على تحقيق تراكم داخلي كاف لأن يقود تطورها إلى حلقات تاريخية صاعدة.
إن أخطر ما انطوى عليه احتلال مصر بواسطة قوى أجنبية، حتى جاء محمد علي ليحاول بناء دولة حديثة مستقلة.
إن منهج نصف الكوب الفارغ ونصف الكوب المملوء لن يجدي نفعا هنا، لأن عوامل الانقطاع كانت في مصر أقوى تاريخيا من عوامل الاتصال
إن المحتلين جميعا، من الفرس إلى الإنجليز، منذ انهيار الدولة الفرعونية الأخيرة، عمدوا إلى نفي أعمدة السيادة الوطنية الثلاثة من حياة المصريين. وهذه الأعمدة تتجسد وتقوم على الحقوق الثلاثة الآتية:
1-    الحق في ملكية الأرض، المورد الرئيسي للثروة. ورغم أن الملكية لم تظهر وتستقر إلا بعد حكم محمد علي فإن نزح فائض الزراعة أو إنتاج الأرض والفلاح للخارج لم يتم إلا في عصور الاحتلال.
2-    الحق في الدفاع عن الوطن، وإنهاء القدرة  العسكرية المصري المستقلة تماما. لقد انتهى تماما وجود جيش من المصريين مع حكم الإغريق والرومان ثم استمر ذلك إلى عصر محمد علي.
3-    الحق في اختيار الحاكم. وقد تم الاحتيال على المصريين بالتواطؤ مع الكهنة وتم تعميد أباطرة وحكام يونانيين ورومان كأبناء لآلهة المصريين حتى يكتسبوا شرعية الحكم.
لقد أدت مصادرة هذه الحقوق الثلاثة من حياة المصريين ومن تاريخهم إلى نزع إرادتهم الوطنية إلا فيما ندر من إرهاصات. وهذا يفسر لماذا عزف التجار المصريون عندما ثاروا على خورشيد باشا في بداية القرن التاسع عشر عن طلب السلطة، ولجأوا بدلا من ذلك إلى طلب الولاية لمحمد علي وهو أحد القادة العسكريين العثمانيين، فقد كانت القوة العسكرية بأيدي العثمانيين، ولم يكن للمصريين جيش، وكانت الثروة أيضا تحت سيطرة العثمانيين، فكانوا وليس غيرهم أهل القوة وأهل الثروة وأهل الحكم وليس المصريون.
إن ظاهرة "انقطاع الاتصال" سيطرت على مجالات الحياة الرئيسية في مصر، ولا تزال مما يسبب ارتباكا شديدا في الإدارة وفي مسارات المستقبل. ويكفي أن نقول أن مصر تأرجحت خلال الستين عاما الأخيرة بين سياسات متناقضة في مجالات الاقتصاد والدفاع والثقافة، مما تسبب في تشويه الهوية المصرية، وأفضى إلى حالة تقترب من الضياع وفقدان الاتجاه.
إن منهج نصف الكوب الفارغ ونصف الكوب المملوء لن يجدي نفعا هنا، لأن عوامل الانقطاع كانت في مصر أقوى تاريخيا من عوامل الاتصال. عوامل الاتصال مثل الموقع ونهر النيل باقية دائما، وساهمت في إبقاء مصر وشعبها عند حد الكفاف الجغرافي والاجتماعي. حد الكفاف الجغرافي الذي يحول دون التقسيم، وحد الكفاف الاجتماعي الذي يحول دون موت الناس أو فنائهم. لكن البقاء عند حد الكفاف الجغرافي والاجتماعي، وهو نصف الكوب المملوء، لا يؤهل مصر لأن تكون قوة تاريخية، على الرغم من كل مواردها وإمكاناتها. لابد من استنفار "الروح الوطنية"، وهذا لا يتحقق أبدا بنظرية نصف الكوب الوسطية البليدة.
***
بقى أن أقول هنا إن ما سأقدمه في الصفحات التالية من رؤية أو إستراتيجية أو سياسات أو أفكار ليس إلا مجرد محاولة فردية بما فيها من اجتهادات أو أخطاء، هي ليست رؤية حزب أو رؤية جماعة من جماعات الضغط، وهي بالتأكيد ليست رؤية كاملة شاملة أو محصنة ضد النقد.    
***
مصر الآن في مفترق طرق. وهي تدور حول نفسها باحثة عن إجابات لأسئلة مصيرية.
لأي نظام دفاعي تنتمي؟
لأي نظام اقتصادي تنتمي؟
لأي نظام سياسي تنتمي؟
لأي نسق ثقافي وقيمي تنتمي؟

إن بيع أصول محلية إلى مستثمرين أجانب في حد ذاته ليس فيه ما يعين الاقتصاد على النمو، إلا إذا استخدمت الدولة حصيلة إيرادات بيع أصول إنتاجية في بناء أصول إنتاجية جديدة
الذين برعوا في وضع الوثائق خلال السنوات التالية لثورة يناير ومن بعدها ثورة يونيو، لم ينجحوا في تقديم الإجابات. وهذا الفشل من شأنه أن يبرهن على انقطاع الصلة بين الثورة وبين ما أنتجته النخبة من وثائق، إما لأن هذه الوثائق لم تجب على الأسئلة الرئيسية التي طرحتها الثورة، بمعني أنها طرحت إجابات لأسئلة خاطئة، وإما لأنها قدمت إجابات خاطئة لأسئلة صحيحة وملحة.
الآن في 2016 أكملت مصر اختيار أضلاع المثلث الحاكم، السلطة التشريعية. الآن في 2016 أصبح لدى مصر النظام السياسي الكامل من الناحية الشكلية، لدينا السلطات الثلاث مكتملة، التنفيذية والقضائية والتشريعية. لكن مصر لم تهتد إلى هويتها بعد. إلى أي عالم تنتمي؟ لا يزال بيننا من يعتقد إن مصر تستمد روحها وهويتها من القرون الوسطى، وإنها لهذا السبب يجب أن تعود للوراء. ولا يزال بيننا من يعتقد أن العولمة غول متوحش علينا أن نهرب من الوقوع بين مخالبه وأنيابه وشروره، وأن ننجو بأنفسنا إلى عالم آخر بديل، أن نصنع نظاما بديلا نعيش فيه، ربما مع آخرين يشاركوننا معتقداتنا عن العالم في وضعه الراهن. لا يزال بيننا من يؤلفون بين الاستبداد والعدالة، ولا يرون العدالة إلا على أيدي "المستبد العادل"! ولا يزال بيننا من يجمع التلازم بين "الحرية والاستغلال". إنها "ثنائيات" مسيطرة على العقل المصري حتى الآن. لا يزال بيننا من يرى أن "الهروب إلى الماضي هو الحل" أو أن "الهروب إلى البحر هو الحل"..أو أن "الهروب إلى الغرب هو الحل" أو حتى "الانتحار هو الحل".
مصر لا تزال في مرحلة البحث عن إجابات لأسئلة رئيسية تتعلق بالهوية. لكن البحث عن الهوية منذ الثورة تعترضه عقبتان كبيرتان، الأولى هي اعتقاد البعض أن "الهدوء هو الحل" ومن ثم فمن الضروري الكف عن الجري وراء البحث عن إجابات لأسئلة، فلا وقت للأسئلة من الأصل! أما العقبة الثانية فإنها تتمثل في "سيطرة المال على الإعلام". ومن خلال هذه السيطرة يحاول الإعلام إعادة خلق وجدان الناس وتشكيل قيمهم وفرض ثقافة اللامبالاة عليهم، ومحاولة إقناع الناس بـ "صورة" يخلقها الإعلام للتورية على "الواقع"، فلا وقت للأسئلة! المستبدون الذين يحاولون "فرض هدوء مصطنع" وأباطرة المال والإعلام الذين يحاولون "خلق وجدان مصطنع" يسعون معا إلى إنتاج مجتمع خال من الأسئلة والتساؤلات. ونظرا لأن التاريخ يتوقف بالكف عن الأسئلة والتساؤل، فالدهشة هي أم المعرفة، ونظرا لأن التاريخ لا يتوقف، فإن هؤلاء الذين يريدون تكميم الأفواه أو فرض ثقافة إلغاء الأسئلة والتساؤلات، سيفشلون لا محالة.
وستظل الأسئلة كما طرحتها:
لأي نظام دفاعي تنتمي؟
ولأي نظام اقتصادي تنتمي؟
ولأي نظام سياسي تنتمي؟
ولأي نسق ثقافي وقيمي تنتمي؟
ولن يستطيع المصريون تلمّس طريقهم إلى تحديد معالم الهوية بدون الحرية. وإنني هنا أستلهم شعار ماو تسي تونج الذي كان جوهر فلسفة الثورة الثقافية في الصين ألا وهو "دع مئة زهرة تتفتح، ومائة مدرسة فكرية تتبارى". هذا هو الطريق القويم إلى اكتشاف معالم الهوية، أو إعادة صياغتها. هذا هو الطريق الصحيح للرد على الأسئلة التي طرحتها ثورة 25 يناير ومن بعدها ثورة 30 يونيو. أسئلة لم تجد إجاباتها بعد.
***
والآن إلى اقتصاد الأمة:
وأقصد باقتصاد الأمة كل ما تحتويه علاقات السوق ومتغيرات العرض والطلب وعلاقات العمل بجوانبها الطبيعية والبشرية والإنتاجية والاستهلاكية والسلوكية والمؤسسية في صورها الرسمية وغير الرسمية. أقصد باقتصاد الأمة: اقتصاد الناس واقتصاد الحكومة، أي الاقتصاد الحي والاقتصاد المكتوب في التقارير والإحصاءات الرسمية.
ومع ذلك فإن الصورة التي سأقدمها هنا هي مستخلصة من تتبع حال اقتصاد الأمة منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، من خلال منظور يستشرف آفاق حركة مكوناتها حتى نهاية النصف الأول من القرن الواحد والعشرين. إننا نتناول إذن مدى زمنيا يمتد إلى قرن من الزمان، فات منه أكثر من ثلثيه، وباقي أمامنا الثلث الأخير منه.
***
أولا: الملامح العامة للواقع الاقتصادي  
سنحاول هنا البعد عن التفاصيل، وتقديم صورة كلية مكثفة للملامح العامة لاقتصاد الأمة كما يبدو الآن. وهذه محاولة مفيدة لإدراك الحالة الاقتصادية والإفلات من التشوهات التي قد تتركها الصور الجزئية القصيرة المتقطعة. فهذه الصور قد تترك تشوهات حادة  في "الإدراك" بشأن حال الاقتصاد. ومرة أخرى فإن هذه الصورة الكلية مستخلصة من التتبع التاريخي لتطور الاقتصاد المصري خلال الفترة من بداية النصف الثاني من القرن العشرين إلى الآن، إلا إذا أشرنا إلى غير ذلك.
***
الملمح الاقتصادي الأول يتمثل في أن "الاستهلاك هو محرك النمو"، وليس الاستثمار أو التصدير، ومن ثم فإن التشوهات في هيكل واتجاهات الاستهلاك تؤدي بالضرورة إلى تشوهات في هيكل واتجاهات النمو. وباستخدام اللغة الاقتصادية الرصينة فإن زيادة السكان وزيادة الإنفاق الاستهلاكي للدولة والأفراد، هو، في حال مصر، القاطرة التي تقود الاقتصاد. وقد أتت زيادة الإنفاق الاستهلاكي خلال الفترة منذ بداية النصف الأول من القرن العشرين وحتى الآن من ستة مصادر أساسية ليس من بينها الادخار (الاستثمار) أو الابتكار التكنولوجي أو التصدير السلعي:
المصدر الأول: المساعدات الأجنبية، وكانت هذه في الخمسينات والستينيات تأتي من الاتحاد السوفيتي. وفي السبعينيات من الدول العربية، ثم من الولايات المتحدة والدول العربية، حتى الآن.
المصدر الثاني: صادرات النفط والمواد الأولية، وقد تعاظم دور صادرات النفط في السبعينيات وحتى بداية القرن الواحد والعشرين، وتراجع هذا الدور وتحول إلى عنصر سلبي يعترض التنمية في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
إن بعض الباحثين يقدرون خط الفقر بمبالغ مالية مختلفة للدخل اليومي للفرد. هناك من يحسبها بواقع 1.5 دولار يوميا وهناك من يحسبها بواقع ضعف هذا الرقم
المصدر الثالث: إيرادات قناة السويس، التي تتراوح حاليا بين 5 إلى 6 مليارات دولار سنويا، ونأمل أن تتضاعف قيمتها الحقيقة مع بدايات الربع الثاني من القرن الواحد والعشرين.
المصدر الرابع: السياحة، التي تطورت في الثمانينيات من مجرد الاعتماد على بيع السياحة التاريخية إلى ترويج السياحة الشاطئية، لكنها تعرضت وستظل تتعرض لتقلبات حادة بسبب الحالة الأمنية والاجتماعية والثقافية.
المصدر الخامس: تحويلات المصريين العاملين في الخارج، وهي مصدر في زيادة مستمرة تقريبا منذ السبعينيات، لكنه يتعرض لتغيرات حادة بسبب عدم استقرار أسعار النفط الخام وسياسات التنمية في الدول النفطية الخليجية التي تتوجه إليها العمالة المصرية (الماهرة وغير الماهرة).
المصدر السادس: يتمثل في لجوء الحكومة إلى أسلوب التمويل بالعجز (التوسع في طبع النقود)، أو بالاقتراض من الخارج. وبسبب هذه السياسات تعرض الاقتصاد المصري لاختناقات كثيرة بسبب عدم الاستقرار المالي وزيادة حدة العجز التمويلي والتضخم وأعباء الديون الخارجية والداخلية. لقد استمر معدل الادخار المحلي عند مستوى منخفض تاريخيا وزادت حدة هذا الانخفاض في العقود الأخيرة، مما يكرس أزمة بنيوية عميقة في اقتصاد الأمة وفي القدرة على النمو.
ومن الضروري أن نكشف في هذا السياق عن إحدى الخرافات التي حاولت الإدارة الاقتصادية تصديرها إلى عقول الناس في مطلع القرن الواحد والعشرين، ألا وهي "خرافة الاستثمار الأجنبي". سوف تفاجئك الإحصاءات الرسمية عن الاستثمار الأجنبي في مصر بارتفاع ملحوظ من سنة إلى أخرى بشكل عام. ومع ذلك فإن تدفقات الاستثمارات الأجنبية إلى مصر تظل ضئيلة ومتواضعة قياسا إلى الدول ذات الجاذبية العالية للمستثمرين الأجانب، مثل الصين والبرازيل وجنوب أفريقيا. الأخطر من ذلك أن تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى مصر كان يكرس ثلاثة مؤشرات  رئيسية لكل منها أثر ضعيف أو سلبي على التنمية الاقتصادية.
المؤشر الأول هو أن تدفق الاستثمار الأجنبي ارتبط بعملية الخصخصة. إن بيع أصول محلية إلى مستثمرين أجانب في حد ذاته ليس فيه ما يعين الاقتصاد على النمو، إلا إذا استخدمت الدولة حصيلة إيرادات بيع أصول إنتاجية في بناء أصول إنتاجية جديدة، وهو ما لم يحدث في حالة مصر. فعملية الخصخصة هي "بيع حقوق ملكية" من الدولة إلى مستثمر أجنبي، وليست إضافة صافية إلى الاقتصاد المحلي. على العكس من ذلك، فإن ما شاب عمليات الخصخصة من انعدام الشفافية والفساد وسرقة إيراداتها أو إهدارها، ترتبت عليه آثار اقتصادية سالبة ظهرت بوضوح في تسريح العمال (زيادة معدل البطالة) وفي انخفاض الإنتاج، بسبب تحويل الأصول الصناعية الإنتاجية إلى أصول عقارية ريعية (لجأ المستثمرون الأجانب إلى بيعها كوسيلة سريعة لتحقيق الربح). فكانت عمليات الخصخصة إذن هي من الناحية العملية "تحويل للثروة" من المالك الوطني (الدولة) إلى المالك الأجنبي (المستثمر الخارجي)، وهذا أبعد ما يكون عن عملية "خلق الثروة" التي يفترض أن رأس المال الأجنبي يقوم بها عندما يتدفق إلى الداخل.
المؤشر الثاني السلبي الذي تم تكريسه الذي يجدر الانتباه إليه هو أن ما يتراوح بين ثلاثة أرباع إلى أربعة أخماس الاستثمارات الأجنبية التي تدفقت إلى مصر تركزت في قطاع النفط والغاز. وإذا استبعدنا عملية خصخصة بنك الإسكندرية، التي فرضها صندوق النقد الدولي، وبمقتضاها اشترت مجموعة سان باولو الإيطالية 80% من أسهم البنك، فإن أهم الاستثمارات الأجنبية التي تدفقت إلى مصر، جاءت بها شركات مثل بي بي (النفط) و بي جي (الغاز)البريطانيتان وإيني (الإيطالية) وأباتشي (الأمريكية) ودانه (الإماراتية) وغيرها. وهي كلها استثمارات في قطاع ذي طابع ريعي، كثيف رأس المال، تنخفض فيه نسبة تشغيل العوامل المحلية، ومن ثم يقود إلى تعميق انخفاض مستوى  التشابك القطاعي (لأنها تنحصر داخل قطاع الطاقة) داخل الاقتصاد المصري.
أما المؤشر الثالث فإنه تمثل في "غياب المكون التكنولوجي المتقدم" عن تدفقات رأس المال الأجنبي إلى مصر خلال العقود الماضية. إن نظرة سريعة على خريطة الاستثمار الأجنبي، بما في ذلك نتائج مؤتمر "شرم الشيخ" للتنمية الاقتصادية (2014) تكشف للوهلة الأولى عن أن قطاع الطاقة وقطاع المقاولات (بناء المدن وشق الطرق) وبعض قطاعات الخدمات الأخرى مثل تشغيل المواني أو إنشاء المرافق الترفيهية، هي المقاصد الأولية لتدفقات رأس المال الأجنبي إلى مصر. أما في المجالات المتقدمة فتغيب هذه الاستثمارات تماما أو تتوارى.
إن الاستنتاج الكبير الذي يمكننا التوصل إليه بشأن الاستثمار الأجنبي هو أنه لم يكن، وليس حتى الآن رافعة من روافع التنمية في مصر، ووسيلة من وسائل بناء القدرات التنافسية.   
الملمح الاقتصادي الثاني يتمثل في سيادة مؤشرات الفقر المركب. على الرغم من أن مصر استطاعت في عقدي الستينيات والسبعينيات أن تحقق قفزات لا بأس بها لتحقيق التنمية، إلا إنها تعرضت في العقود التالية لانتكاسات أو لتآكل تدريجي في قدراتها، مما أدى إلى تكريس مؤشرات الفقر المركب، الذي يعكس خللا حادا في العلاقة بين الإنسان وبين الموارد، وفي العلاقة بين الناس وبعضهم البعض في عملية الإنتاج. ويتكون مؤشر الفقر المركب من حساب مؤشرات الفقر الطبيعي في الموارد (مثل المياه) والفقر المالي (الدخل) والفقر الغذائي (السعرات الحرارية لحد الكفاف) والفقر الاجتماعي (مثل المسكن الملائم). وإذا أخذنا مؤشر الفقر المالي أو الدخل كأحد المؤشرات الدالة على مدى انتشار مؤشر الفقر المركب، فإننا سنقترب من إدراك أن مصر مجتمع فقير (رغم تصنيف مصر كواحد من البلدان النامية متوسطة الدخل). فمصر في الحقيقة تقع على الحافة الدنيا للبلدان النامية متوسطة الدخل والحافة العليا للبلدان النامية (الفقيرة) منخفضة الدخل.
ومن الضروري هنا أن أعرض ملاحظتين تتعلقان بكيفية حساب معدلات الفقر، الملاحظة الأولى تتعلق بوحدة القياس، وهل تكون على أساس حساب قيمة "الدخل الاسمي" أم على أساس "القوة الشرائية للدخل". أما الملاحظة الثانية فإنها تتعلق بالقيمة الحدية للفقر وهل هي 1.5 دولار يوميا، أم 2.5 دولار يوميا أو 4 دولارات محسوبة إما على أساس "القيمة الاسمية" أو على أساس "القوة الشرائية". ويؤدي الاختلاف في طريقة حساب الفقر إلى اختلاف في النتائج المترتبة على ذلك.
في الملاحظة الأولى المتعلقة بوحدة القياس، يتم حساب الدخل على أساس "القيمة الاسمية للعملة" أي معدل التحويل الرسمي لقيمة دخل الفرد في الدولة (أ) مثلا إلى قيمة الدخل الاسمي للفرد في الدولة (ب). وهناك طريقة أخرى أصبحت أكثر شيوعا في الوقت الحاضر ألا وهي إجراء المقارنة النسبية على أساس "القوة الشرائية" (purchasing power parity) للعملة في السوق المحلي. ويعتقد أصحاب هذه الطريقة أن "القوة الشرائية" هي التي تقرر مستوى المعيشة وليس "القيمة الاسمية". وهذا افتراض يحتاج إلى الكثير من الجدل، لأنك لن تسافر إلى دولة أخرى محملا بأكياس معبئة بالبطاطس والقطن الخام والموالح، وعندما تصلها تطلب مبادلتها بعملة دولة المقصد أو حتى بمنتجاتها! وفي يقيني أن حسابات الدخل ومستوى المعيشة تعتمد جوهريا على القيمة الاسمية للدخل محسوبة بأوسع العملات انتشارا في سوق التسويات التجارية ألا وهي الدولار الأمريكي (60% من مدفوعات التجارة الدولية تقريبا تتم بالدولار).
الملاحظة الثانية تتعلق بكيفية حساب خط الفقر. وكما ذكرت فإن بعض الباحثين يقدرون خط الفقر بمبالغ مالية مختلفة للدخل اليومي للفرد. هناك من يحسبها بواقع 1.5 دولار يوميا وهناك من يحسبها بواقع ضعف هذا الرقم. وهناك دول أو مؤسسات تضع تقديراتها الخاصة لما يسمى "خط الفقر القومي" الذي ينطبق على بلد بعينه ولا ينطبق على غيره مثلما هي الحال في مصر (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء).
ونظرا لأن الفرد يقيس مستوى معيشته بالآخرين عند تقييم وضعه الاجتماعي، فلا مفر من أخذ ذلك في الاعتبار عندما نقرر أين يقع تقريبا خط الفقر الذي يفصل توزيع الفئات الاجتماعية (أو الأفراد) عن بعضها. وأقرب وسيلة رياضية بسيطة لتحقيق ذلك هو أخذ متوسط الدخل الفردي في بلد ما بوصفه الخط الفاصل بين الفقر والغني. فمن هم أسفل خط متوسط الدخل هم الفقراء بدرجاتهم المختلفة، ومن هم أعلى هذا الخط هم الفئات المتوسطة والغنية من أصحاب الدخل. بهذه الطريقة يتم حساب "خط الفقر القومي". وبنفس الطريقة يتم حساب "خط الفقر العالمي"، بمعنى أن الدول التي يقل متوسط الدخل الفردي لديها عن المتوسط العالمي تقع أسفل خط الفقر، وأن الدول التي تقع فوق المتوسط، يتم تصنيفها حسب مكانتها فوق خط الفقر العالمي. فإذا افترضنا في مصر على سبيل المثال أن متوسط الدخل القومي للفرد هو 3000 دولار سنويا، فإن هؤلاء الذين يقل دخلهم السنوي عن هذا الرقم يقعون تحت خط الفقر، أما أولئك الذين يزيد دخلهم السنوي عن 3000 دولار فإنهم يصنفون في الفئات (المتوسطة والعليا) أعلى خط الفقر. وبمقارنة مصر مع العالم، فإننا نقارن كلا من متوسط الدخل الفردي في مصر بمتوسط الدخل الفردي على مستوى العالم. ويتحدد موقعنا كدولة منخفضة الدخل أو مرتفعة الدخل بناء على ذلك.
ويعبر الشكل التالي (هرم توزيع الثروة) عن الاتجاه العام لميل الثروة إلى التركز إلى أعلى، وعن اتساع نسبة الفقراء إلى أسفل، وعن ضيق مساحة الطبقة أو الفئات المتوسط في المنتصف أعلى خط الفقر. ويمثل (هرم توزيع الدخل) مجرد شكل توضيحي عام  يقيس قيمة الدخل على  المحور الرأسي وعدد الأفراد على المحور الأفقي. وطبقا لهذا الشكل فإن أصحاب الدخل الأعلى يحتلون قمة الهرم، بينما يبقى الفقراء عند القاعدة.
(شكل 1) هرم توزيع الدخل

من أجل المستقبل:
كما يتضمن مؤشر الفقر المركب إضافة إلى الدخل مؤشرات الفقر الاجتماعي الذي يتضمن الحد الأدنى الضروري للمحافظة على الصحة والسكن والتعليم وما يرتبط بذلك من خدمات أخرى. ويتضمن مؤشر الفقر المركب كذلك خط الفقر المائي والذي تتزايد أهميته بشكل خاص في  مصر، نظرا لأن خط الفقر المائي يقرر مستويات التنمية الحالية والمستقبلة. ومن المعروف أن الفرد في مصر يعيش تحت خط الفقر المائي (1000 م3 سنويا) منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين. ومن المتوقع أن تتزايد حدة الفقر المائي في مصر  نظرا لاستمرار الخلل في العلاقة بين السكان الذين يتزايدون وموارد المياه الثابتة تقريبا.
الملمح الاقتصادي  الثالث هو "انخفاض الإنتاجية". ويعبر ذلك عن انخفاض إنتاجية العوامل مجتمعة (total factor productivity) وهو العامل المسيطر على القطاع الزراعي وكل قطاعات الإنتاج السلعي والخدمي في مصر.  وتعاني الزراعة عموما من انخفاض حاد في إنتاجية كل عوامل الإنتاج (TFP)، سواء فيما يتعلق بإنتاجية العمل أو الأرض أو المياه أو رأس المال (المعدات والآلات).
وقد ثارت في الآونة الأخيرة نزعة فئوية تتهم العمال بالكسل والانصراف عن العمل إلى طلب زيادات في الأجور! إن التكاسل عن العمل أو الانصراف عن العمل إلى طلب زيادات في الأجور ليسا إلا بعضا من الأشكال التي تظهر من خلالها مؤشرات انخفاض الإنتاجية، لكنها وغيرها  ليست هي الأسباب الأصيلة لانخفاض الإنتاجية. فإنتاجية العمل تتحدد بمستويات التدريب والتكنولوجيا المستخدمة وكفاءة استخدام رأس المال بواسطة الإدارة. إن المقارنة بين إنتاجية ساعة العمل في مصر مع غيرها من بلدان العالم، من الضروري أن تأخذ في اعتبارها مستويات تعليم وتدريب العمال المصريين ومستوى التكنولوجيا التي يستخدمونها، فهناك الكثير من العوامل الأخرى، غير حماس أو كسل العمال، التي تقرر إنتاجية العمل.
ولقد أتيحت الفرص لكاتب هذه السطور أن يزور بعض المصانع في قطاعات مختلفة مثل الغزل والنسيج والكيماويات والحديد والصلب، وأن يتحدث مع مسئوليها وممثلي العاملين. ووجد الكاتب إن انخفاض إنتاجية العمل يعود إلى أسباب كثيرة منها نقص الاستثمارات وتدهور مستوى الصيانة ونقص قطع الغيار وتقادم الآلات وتخلفها تكنولوجيا وبيروقراطية الإدارة وانتشار  الفساد والمحسوبية، إضافة إلى انخفاض مستوى التدريب الصناعي.
وهذا لا ينفي بالمرة إن بعض العمال تسيطر عليهم روح التكاسل والانصراف عن الإنتاج وإعطاء الاهتمام لأعمالهم الخاصة أو لـ "الوظيفة الثانية" التي يعمل بها معظم العمال سواء في الحكومة أو في القطاع العام أو الخاص. وقد تسببت ضغوط الحياة في انصراف العاملين إلى العمل في أكثر من وظيفة لزيادة قدرتهم على مصاريف الأسر التي يعولونها.
وهناك عوامل أخرى خارج بيئة العمل تؤدي بالضرورة إلى انخفاض الإنتاجية. ومن أمثلة ذلك عدم الرضا السياسي والشعور بالتهميش وعدم المشاركة. وهناك أيضا عوامل محبطة يؤدي للإرهاق البدني والنفسي وتؤثر سلبا على ظروف العمل مثل الزحام الشديد في المواصلات العامة، وطول المدة الزمنية اللازمة للانتقال من محل السكن إلى محل العمل، والتغذية الرديئة وتردي الأحوال الصحية للعاملين وكثرة المشاكل والأعباء العائلية التي تخلق جوا خانقا، يؤثر سلبا بصورة غير مباشرة على إنتاجية العمل.

لا بد من أن يكون هدف التنمية الاقتصادية هو بناء وزيادة القدرة على المنافسة في السوق الداخلي والسواق الخارجية
وبالتالي فإن انخفاض الإنتاجية لا يعود في الأصل إلى تكاسل العمال، لكنه يعود إلى قصور في مجالات التعليم والتدريب والصيانة والتكنولوجيا والاستثمار بشكل عام. ويؤدي انخفاض الإنتاجية بالضرورة إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج ومن ثم عدم القدرة على المنافسة.  
الملمح الاقتصادي الرابع يتمثل في "انخفاض مستوى التشابك الاقتصادي بين القطاعات بشكل عام وفي داخل الصناعة الواحدة". هو السمة المسيطرة على الصناعات التحويلية، وبين قطاعات الاقتصاد بشكل عام. وهو يؤدي إلى ارتفاع نسبة الاعتماد على الواردات  في السوق بشكل عام. ويترجم الارتفاع المتزايد على الواردات نفسه في الزيادة المتواصلة في قيمة عجز التجارة السلعية (باستثناء النفط والغاز) على مدى العقود الماضية. ومن ثم فإن هذا الملمح يتصل مباشرة بمواجهة "اختبار العجز التجاري". ومن المدهش أن المسئولين عن السياسة الاقتصادية يعتقدون النجاح في "امتحان العجز التجاري" يتوقف على تخفيض الواردات بقرارات إدارية أو جمركية! ربما تنجح مثل هذه الإجراءات في تخفيض الواردات ببضعة ملايين من الدولارات، أو حتى مئات الملايين في الأجل القصير، لكن هذا التخفيض لن يكون أبدا الإجابة الصحيحة في "امتحان العجز التجاري" على المدى الطويل.
ومن السهل أن تبدأ السياسة الاقتصادية في وضع خرائط للتشابك القطاعي والصناعي، يكون الغرض منها وضع برامج للتداخل والتشابك بين القطاعات، وتعميق هذه الظاهرة بمرور الزمن. وليس من المقبول أن يضيع جزء كبير من عائد القطاع الزراعي في الإنفاق على واردات من الخارج تشمل المخصبات غير الآزوتية والمبيدات والبذور المنتقاة والآلات الزراعية ومستلزمات نظم الري الحديثة. وليس من المقبول أن تعتمد الصناعات الهندسية على مستلزمات كلها تقريبا مستوردة من الخارج.
إن فلسفة التخصص وتقسيم العمل تعرضت لتغيرات كثيرة منذ بدأت الثورة الصناعية الأولى، لكن صناع السياسة الاقتصادية في مصر لا يدركون إلا القليل من هذه التغيرات وما تنطوي عليه من دلالات. ومن المثير للدهشة إن بعض قيادات الصناعة وصناع السياسة الاقتصادية مشغولون حتى النخاع بموضوع "إنتاج سيارة مصرية" في حين أن فردة حذاء واحدة من أي ماركة عالمية مشهورة تشارك في إنتاجها عدة بلدان قد يزيد عددها عن 100 دولة! وإن أي سيارة تنتجها أي شركة من الشركات العالمية تشارك في إنتاجها عشرات الدول. لم تعد هناك "سيارة وطنية" بالمعنى القديم، فهذا عصر انتهى منذ عقود. الآن تقوم شركة هيونداي الكورية مثلا بتصنيع سيارات كاملة الصنع في جمهورية التشيك يتم إنتاجها باستخدام محركات وأجزاء ومكونات من عدد من بلدان أوربا وآسيا، في إطار سياسة للتكامل الأفقي والراسي داخل الشركة لا علاقة لها بالحدود بين الدول ولكنها مبنية على القدرة التنافسية للعمليات الإنتاجية في كل دولة وعلى يسر وسهولة السياسات التجارية والمالية للدول التي تقع فيها المصانع المنتجة. وعلى سبيل المثال فإن تخفيض الجمارك على السيارات الأوروبية في مصر طبقا لاتفاق الشراكة بين مصر والإتحاد الأوروبي أدى عمليا إلى تخلي بعض الشركات عن تجميع السيارات في مصر، واللجوء إلى توفير الحصة السوقية المطلوبة عن طريق الاستيراد من أوربا.
إن صناع السياسة الاقتصادية في مصر تقع على عاتقهم مسئولية إعداد خريطة للتشابك القطاعي والصناعي، بما يؤدي إلى تحقيق غرضين في آن واحد، الأول هو زيادة الترابط بين القطاعات وتقليل الاعتماد على الواردات، والثاني هو زيادة القدرة التنافسية للصناعة والنفاذ إلى الأسواق الخارجية. ولا مفر على الإطلاق من أن يكون هدف التنمية الاقتصادية هو بناء وزيادة القدرة على المنافسة في السوق الداخلي والسواق الخارجية، فقد انتهى عالم الاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس محليا واستطاعت "العولمة" أن تسحق أمامها كل ما هو محلي خالص إلى معظم ما هو إقليمي خالص.