المصدر الثالث: إيرادات قناة السويس، التي تتراوح حاليا بين 5 إلى 6 مليارات دولار سنويا، ونأمل أن تتضاعف قيمتها الحقيقة مع بدايات الربع الثاني من القرن الواحد والعشرين.
المصدر الرابع: السياحة، التي تطورت في الثمانينيات من مجرد الاعتماد على بيع السياحة التاريخية إلى ترويج السياحة الشاطئية، لكنها تعرضت وستظل تتعرض لتقلبات حادة بسبب الحالة الأمنية والاجتماعية والثقافية.
المصدر الخامس: تحويلات المصريين العاملين في الخارج، وهي مصدر في زيادة مستمرة تقريبا منذ السبعينيات، لكنه يتعرض لتغيرات حادة بسبب عدم استقرار أسعار النفط الخام وسياسات التنمية في الدول النفطية الخليجية التي تتوجه إليها العمالة المصرية (الماهرة وغير الماهرة).
المصدر السادس: يتمثل في لجوء الحكومة إلى أسلوب التمويل بالعجز (التوسع في طبع النقود)، أو بالاقتراض من الخارج. وبسبب هذه السياسات تعرض الاقتصاد المصري لاختناقات كثيرة بسبب عدم الاستقرار المالي وزيادة حدة العجز التمويلي والتضخم وأعباء الديون الخارجية والداخلية. لقد استمر معدل الادخار المحلي عند مستوى منخفض تاريخيا وزادت حدة هذا الانخفاض في العقود الأخيرة، مما يكرس أزمة بنيوية عميقة في اقتصاد الأمة وفي القدرة على النمو.
ومن الضروري أن نكشف في هذا السياق عن إحدى الخرافات التي حاولت الإدارة الاقتصادية تصديرها إلى عقول الناس في مطلع القرن الواحد والعشرين، ألا وهي "خرافة الاستثمار الأجنبي". سوف تفاجئك الإحصاءات الرسمية عن الاستثمار الأجنبي في مصر بارتفاع ملحوظ من سنة إلى أخرى بشكل عام. ومع ذلك فإن تدفقات الاستثمارات الأجنبية إلى مصر تظل ضئيلة ومتواضعة قياسا إلى الدول ذات الجاذبية العالية للمستثمرين الأجانب، مثل الصين والبرازيل وجنوب أفريقيا. الأخطر من ذلك أن تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى مصر كان يكرس ثلاثة مؤشرات رئيسية لكل منها أثر ضعيف أو سلبي على التنمية الاقتصادية.
المؤشر الأول هو أن تدفق الاستثمار الأجنبي ارتبط بعملية الخصخصة. إن بيع أصول محلية إلى مستثمرين أجانب في حد ذاته ليس فيه ما يعين الاقتصاد على النمو، إلا إذا استخدمت الدولة حصيلة إيرادات بيع أصول إنتاجية في بناء أصول إنتاجية جديدة، وهو ما لم يحدث في حالة مصر. فعملية الخصخصة هي "بيع حقوق ملكية" من الدولة إلى مستثمر أجنبي، وليست إضافة صافية إلى الاقتصاد المحلي. على العكس من ذلك، فإن ما شاب عمليات الخصخصة من انعدام الشفافية والفساد وسرقة إيراداتها أو إهدارها، ترتبت عليه آثار اقتصادية سالبة ظهرت بوضوح في تسريح العمال (زيادة معدل البطالة) وفي انخفاض الإنتاج، بسبب تحويل الأصول الصناعية الإنتاجية إلى أصول عقارية ريعية (لجأ المستثمرون الأجانب إلى بيعها كوسيلة سريعة لتحقيق الربح). فكانت عمليات الخصخصة إذن هي من الناحية العملية "تحويل للثروة" من المالك الوطني (الدولة) إلى المالك الأجنبي (المستثمر الخارجي)، وهذا أبعد ما يكون عن عملية "خلق الثروة" التي يفترض أن رأس المال الأجنبي يقوم بها عندما يتدفق إلى الداخل.
المؤشر الثاني السلبي الذي تم تكريسه الذي يجدر الانتباه إليه هو أن ما يتراوح بين ثلاثة أرباع إلى أربعة أخماس الاستثمارات الأجنبية التي تدفقت إلى مصر تركزت في قطاع النفط والغاز. وإذا استبعدنا عملية خصخصة بنك الإسكندرية، التي فرضها صندوق النقد الدولي، وبمقتضاها اشترت مجموعة سان باولو الإيطالية 80% من أسهم البنك، فإن أهم الاستثمارات الأجنبية التي تدفقت إلى مصر، جاءت بها شركات مثل بي بي (النفط) و بي جي (الغاز)البريطانيتان وإيني (الإيطالية) وأباتشي (الأمريكية) ودانه (الإماراتية) وغيرها. وهي كلها استثمارات في قطاع ذي طابع ريعي، كثيف رأس المال، تنخفض فيه نسبة تشغيل العوامل المحلية، ومن ثم يقود إلى تعميق انخفاض مستوى التشابك القطاعي (لأنها تنحصر داخل قطاع الطاقة) داخل الاقتصاد المصري.
أما المؤشر الثالث فإنه تمثل في "غياب المكون التكنولوجي المتقدم" عن تدفقات رأس المال الأجنبي إلى مصر خلال العقود الماضية. إن نظرة سريعة على خريطة الاستثمار الأجنبي، بما في ذلك نتائج مؤتمر "شرم الشيخ" للتنمية الاقتصادية (2014) تكشف للوهلة الأولى عن أن قطاع الطاقة وقطاع المقاولات (بناء المدن وشق الطرق) وبعض قطاعات الخدمات الأخرى مثل تشغيل المواني أو إنشاء المرافق الترفيهية، هي المقاصد الأولية لتدفقات رأس المال الأجنبي إلى مصر. أما في المجالات المتقدمة فتغيب هذه الاستثمارات تماما أو تتوارى.
إن الاستنتاج الكبير الذي يمكننا التوصل إليه بشأن الاستثمار الأجنبي هو أنه لم يكن، وليس حتى الآن رافعة من روافع التنمية في مصر، ووسيلة من وسائل بناء القدرات التنافسية.
الملمح الاقتصادي الثاني يتمثل في سيادة مؤشرات الفقر المركب. على الرغم من أن مصر استطاعت في عقدي الستينيات والسبعينيات أن تحقق قفزات لا بأس بها لتحقيق التنمية، إلا إنها تعرضت في العقود التالية لانتكاسات أو لتآكل تدريجي في قدراتها، مما أدى إلى تكريس مؤشرات الفقر المركب، الذي يعكس خللا حادا في العلاقة بين الإنسان وبين الموارد، وفي العلاقة بين الناس وبعضهم البعض في عملية الإنتاج. ويتكون مؤشر الفقر المركب من حساب مؤشرات الفقر الطبيعي في الموارد (مثل المياه) والفقر المالي (الدخل) والفقر الغذائي (السعرات الحرارية لحد الكفاف) والفقر الاجتماعي (مثل المسكن الملائم). وإذا أخذنا مؤشر الفقر المالي أو الدخل كأحد المؤشرات الدالة على مدى انتشار مؤشر الفقر المركب، فإننا سنقترب من إدراك أن مصر مجتمع فقير (رغم تصنيف مصر كواحد من البلدان النامية متوسطة الدخل). فمصر في الحقيقة تقع على الحافة الدنيا للبلدان النامية متوسطة الدخل والحافة العليا للبلدان النامية (الفقيرة) منخفضة الدخل.
ومن الضروري هنا أن أعرض ملاحظتين تتعلقان بكيفية حساب معدلات الفقر، الملاحظة الأولى تتعلق بوحدة القياس، وهل تكون على أساس حساب قيمة "الدخل الاسمي" أم على أساس "القوة الشرائية للدخل". أما الملاحظة الثانية فإنها تتعلق بالقيمة الحدية للفقر وهل هي 1.5 دولار يوميا، أم 2.5 دولار يوميا أو 4 دولارات محسوبة إما على أساس "القيمة الاسمية" أو على أساس "القوة الشرائية". ويؤدي الاختلاف في طريقة حساب الفقر إلى اختلاف في النتائج المترتبة على ذلك.
في الملاحظة الأولى المتعلقة بوحدة القياس، يتم حساب الدخل على أساس "القيمة الاسمية للعملة" أي معدل التحويل الرسمي لقيمة دخل الفرد في الدولة (أ) مثلا إلى قيمة الدخل الاسمي للفرد في الدولة (ب). وهناك طريقة أخرى أصبحت أكثر شيوعا في الوقت الحاضر ألا وهي إجراء المقارنة النسبية على أساس "القوة الشرائية" (purchasing power parity) للعملة في السوق المحلي. ويعتقد أصحاب هذه الطريقة أن "القوة الشرائية" هي التي تقرر مستوى المعيشة وليس "القيمة الاسمية". وهذا افتراض يحتاج إلى الكثير من الجدل، لأنك لن تسافر إلى دولة أخرى محملا بأكياس معبئة بالبطاطس والقطن الخام والموالح، وعندما تصلها تطلب مبادلتها بعملة دولة المقصد أو حتى بمنتجاتها! وفي يقيني أن حسابات الدخل ومستوى المعيشة تعتمد جوهريا على القيمة الاسمية للدخل محسوبة بأوسع العملات انتشارا في سوق التسويات التجارية ألا وهي الدولار الأمريكي (60% من مدفوعات التجارة الدولية تقريبا تتم بالدولار).
الملاحظة الثانية تتعلق بكيفية حساب خط الفقر. وكما ذكرت فإن بعض الباحثين يقدرون خط الفقر بمبالغ مالية مختلفة للدخل اليومي للفرد. هناك من يحسبها بواقع 1.5 دولار يوميا وهناك من يحسبها بواقع ضعف هذا الرقم. وهناك دول أو مؤسسات تضع تقديراتها الخاصة لما يسمى "خط الفقر القومي" الذي ينطبق على بلد بعينه ولا ينطبق على غيره مثلما هي الحال في مصر (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء).
ونظرا لأن الفرد يقيس مستوى معيشته بالآخرين عند تقييم وضعه الاجتماعي، فلا مفر من أخذ ذلك في الاعتبار عندما نقرر أين يقع تقريبا خط الفقر الذي يفصل توزيع الفئات الاجتماعية (أو الأفراد) عن بعضها. وأقرب وسيلة رياضية بسيطة لتحقيق ذلك هو أخذ متوسط الدخل الفردي في بلد ما بوصفه الخط الفاصل بين الفقر والغني. فمن هم أسفل خط متوسط الدخل هم الفقراء بدرجاتهم المختلفة، ومن هم أعلى هذا الخط هم الفئات المتوسطة والغنية من أصحاب الدخل. بهذه الطريقة يتم حساب "خط الفقر القومي". وبنفس الطريقة يتم حساب "خط الفقر العالمي"، بمعنى أن الدول التي يقل متوسط الدخل الفردي لديها عن المتوسط العالمي تقع أسفل خط الفقر، وأن الدول التي تقع فوق المتوسط، يتم تصنيفها حسب مكانتها فوق خط الفقر العالمي. فإذا افترضنا في مصر على سبيل المثال أن متوسط الدخل القومي للفرد هو 3000 دولار سنويا، فإن هؤلاء الذين يقل دخلهم السنوي عن هذا الرقم يقعون تحت خط الفقر، أما أولئك الذين يزيد دخلهم السنوي عن 3000 دولار فإنهم يصنفون في الفئات (المتوسطة والعليا) أعلى خط الفقر. وبمقارنة مصر مع العالم، فإننا نقارن كلا من متوسط الدخل الفردي في مصر بمتوسط الدخل الفردي على مستوى العالم. ويتحدد موقعنا كدولة منخفضة الدخل أو مرتفعة الدخل بناء على ذلك.
ويعبر الشكل التالي (هرم توزيع الثروة) عن الاتجاه العام لميل الثروة إلى التركز إلى أعلى، وعن اتساع نسبة الفقراء إلى أسفل، وعن ضيق مساحة الطبقة أو الفئات المتوسط في المنتصف أعلى خط الفقر. ويمثل (هرم توزيع الدخل) مجرد شكل توضيحي عام يقيس قيمة الدخل على المحور الرأسي وعدد الأفراد على المحور الأفقي. وطبقا لهذا الشكل فإن أصحاب الدخل الأعلى يحتلون قمة الهرم، بينما يبقى الفقراء عند القاعدة.
(شكل 1) هرم توزيع الدخل