الملاحظة
الثالثة تتعلق بالتطورات التي حدثت على صعيد التسوية السياسية للأزمة السورية
وبالذات مخرجات مؤتمري فيينا الأخيرين، ومن بينها التوصل إلى توافق يبقي مرحليًا
على الرئيس السوري بشار الأسد في المرحلة الانتقالية المقترحة.
أما
الملاحظة الرابعة فتتعلق بالتطورات الميدانية التي تزامنت مع فشل الرهانات التركية
في سوريا، بعد أن تم تحرير سنجار على يد قوات البشمركة العراقية وتحرير منطقة
الهول على يد قوات حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، الأمر الذي أدى إلى خسارة
إستراتيجية لتنظيم "داعش" من شأنها قطع الطرق الموصلة بين مدينتي
"الرقة" السورية (عاصمة "داعش" في سوريا) والموصل (عاصمة
"داعش" في العراق) ما يعني
توجيه ضربة إستراتيجية لمشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام، لكن ما هو أخطر
أن هذا الإنجاز تحقق على أيدي مقاتلين أكراد الأمر الذي فجر المخاوف لدى تركيا،
ومن هنا كان التوجه العسكري التركي نحو العراق.
بهذا
المعنى نستطيع أن نقول إن الدخول العسكري التركي شمال العراق جاء بدافع من كل هذه
التطورات، وبالذات الخسائر التي واجهت وتواجه "داعش" والمكاسب التي
تتحقق للأكراد، وخطورة أن تنعكس انتصارات الأكراد في شمال تركيا والعراق إلى
الداخل التركي نفسه، وإعطاء حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل داخل المناطق
الكردية في تركيا، ويسعى لفرض خيار "الحكم الذاتي" بحكم الأمر الواقع
ويستقوى سياسيًا بوجود "حزب الشعوب الديمقراطي" الكردي في البرلمان فرصة
سانحة للانتصار.
كما
استهدفت تركيا من تدخلها العسكري في العراق توجيه رسائل إلى قطبي مؤتمر فيينا
السوري: الولايات المتحدة وروسيا بأن تركيا لديها أوراق تستطيع أن تلعبها في
العراق، ولعل هذا ما دفع الولايات المتحدة إلى دعم المطلب العراقي المؤيد من روسيا
بضرورة خروج القوات التركية من العراق، وتفنيد المزاعم التركية بان وجود القوة
التركية في العراق هدفه محاربة "داعش" على نحو ما جاء على لسان نائب
رئيس الوزراء التركي، لكن إلى أي مدى يمكن أن تصطدم واشنطن مع أنقرة في العراق؟
إجابة
هذا السؤال يمكن أن تكشف مستقبل حدود الدور التركي الإقليمي، نظرًا لأن تركيا لن
تخرج عن الطاعة الأمريكية، كما أن واشنطن يصعب أن تضحي بحليف تاريخي مثل تركيا
خصوصًا في ظل التوجه التركي الجديد لمغازلة "إسرائيل" علنيًا في محاولة
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أوراق اللعب التركية مع التعقد المتزايد لخريطة
التحالفات والتوازنات الدولية والإقليمية.
ثانياً- العودة
إلى "الحليف المأمون"
لم
تكتف تركيا بمحاولة فرض نفسها كلاعب أساسي في التطورات والتسويات المحتملة في
العراق على ضوء نجاحات العراق في هزيمة "داعش" في مدينة
"الرمادي" عاصمة محافظة الأنبار، ما يعني أن فرض تحرير مدينة الموصل هي
الأخرى باتت مواتية، ولكنها اتجهت إلى إسرائيل، أو قررت أن تتجه صوب إسرائيل بعد
انسداد فرصها تمامًا في سوريا نكاية مع إيران.
قبل
التوجه نحو إسرائيل كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حريصًا على تأمين مكاسبه
العربية من خلال قناتين الأولى الاستجابة السريعة للمشاركة في التحالف السعودي
الإسلامي، والثانية تفعيل اتفاقية الشراكة الإستراتيجية مع دولة قطر بالإعلان عن
إقامة قاعدة عسكرية تركية في قطر هي الأولى من نوعها منذ انتهاء عصر الإمبراطورية
العثمانية.
الواضح
أن إقامة هذه القاعدة العسكرية التركية في قطر ليس لدوافع من حاجة قطرية للحصول على
دعم عسكري تركي، لأن قطر بها أهم قاعدتين عسكريتين أمريكيتين، الأمر الذي يكشف أن
الدوافع سياسية بالدرجة الأولى، وهي رسالة مزدوجة الأولى نحو إيران لإعلان موقف
تركي مفاده؛ أنه إذا كانت طهران قد نجحت في أن تقيم وتؤسس نفوذًا على حدود تركيا
في سوريا، فإن تركيا تقيم قاعدة عسكرية في قطر بمواجهة الأراضي والسواحل
الإيرانية. أما الرسالة الثانية فهي للحليف "الإسرائيلي" مفادها؛ أن
تركيا تتوجه نحو "إسرائيل" من موقع القوة والنفوذ الإقليمي وليس من موقع
الضعف، وتحمل أيضًا ما هو أكثر وهو أن الشراكة التركية- "الإسرائيلية" الجديدة
في مقدورها أن تفتح آفاقًا غير معهودة لـ "إسرائيل" على مقربة من
السواحل الإيرانية.
كما
أن تركيا كانت حريصة أيضًا على تمتين العلاقة مع المملكة العربية السعودية بالعزف
على أنغام سعودية تضع إيران موضع مصدر التهديد الأول، وتتهم إيران بإشعال صراع
طائفي سُني- شيعي يهدد استقرار وأمن دول المنطقة. فقد بادر أردوغان بتبني خطاب
مذهبي امتد إلى حزبه الحاكم في أنقرة "العدالة والتنمية"، بدأ بتعمد
أردوغان الإشارة علنًا إلى الانتماء المذهبي العلوي لزعيم المعارضة التركية كمال
كيليتشدار أوغلو زعيم "حزب الشعب الجمهوري"، وتعمد توجيه خطاب انتقادي
غير معهود للشيعة على شاشات التليفزيون واصفًا إياهم بأنهم "منافقون
وكاذبون".
تعمد
الحديث إلى محطة تليفزيونية عربية متسائلًا عن مصير بعض المجموعات في العراق، التي
قال أن القوة العسكرية التركية الموجودة في العراق تهدف إلى ضمان أمنها. وقال
بالحرف الواحد: "هنا يوجد عرب سنة، ويوجد تركمان سنة، ويوجد أكراد سنة، فمن
الذي سيحفظ أمن هؤلاء. هم بحاجة إلى حماية أنفسهم عبر برنامج التدريب الحالي، وكل
الخطوات التي نقوم بها هي في هذا الاتجاه".
هذا الخطاب المذهبي، وهذا الدور الذي يتحدث
عنه أردوغان لتركيا في العراق ينسجم أيضًا مع الفكر الإستراتيجي
"الإسرائيلي" حامل لواء الدعوة إلى تأسيس حلف "للعرب السنة"
تدعمه "إسرائيل" لمواجهة حلف "عرب الشيعة" المدعوم من إيران
وروسيا.
يبدو
أن أردوغان كان في معرض تجهيز أوراق اعتماد الشراكة الجديدة مع
"إسرائيل" لذلك لم يكتف بالتناغم مع الفكر الإستراتيجي
"الإسرائيلي" خاصة دعوة "الحلف السُني" و"الحلف
الشيعي" كاستقطاب إقليمي جديد تراه "إسرائيل" الأنسب لإدارة الصراع
الإقليمي لتحييد القضية الفلسطينية وإنهاء موقعها المركزي ضمن هذا الصراع، لذلك
اتجه إلى توجيه اتهامات مباشرة لإيران بأنها "من يتبنى سياسات طائفية في
سوريا". ففي كلمة متلفزة له في إسطنبول (27/12/2015) قال "لو لم تقف
إيران خلف الأسد لأسباب طائفية، لما كنا نناقش اليوم ربما قضية مثل سوريا".
لكنه تجاوز إيران ليمتد في هجومه إلى روسيا أيضًا باتهامها باستهداف الإسلام. ففي
كلمة له (19/12/2015) ألمح إلى استهداف روسيا للإسلام بحجة محاربة تنظيم
"الدولة الإسلامية" (داعش) معتبرًا أن "صراع القوى في سوريا تحول
بذريعة الحرب على تنظيم الدولة إلى مأساة".
وإذا
كان أردوغان قد قرر العودة إلى "إسرائيل" باعتبارها القاعدة الثابتة
التي يجدها عند الضرورة والمفتوحة له دائمًا بدافع من الفشل السياسي التركي في
سوريا والعراق، فإنه يتجه أيضًا نحو هذا الحليف "الإسرائيلي" الدائم
بدافع من الهروب من الحصار والتضييق الروسي على تركيا في قاعدتها الخلفية في إقليم
قزوين، خاصة مع أرمينيا حيث تتجه روسيا إلى إنشاء نظام إقليمي موحد للدفاع الجوي
بين البلدين في منطقة القوقاز. لكن التوجه التركي نحو "إسرائيل" يجيء
أيضًا بدوافع اضطرارية خاصة بالحرص على تنويع مصادر الطاقة وتحسبًا لتضييق روسي
على تركيا في اتفاقيات بيع الغاز، حيث إن تركيا تعتمد على استيراد الغاز الروسي لتلبية
ثلث إن لم يكن نصف احتياجاتها من الغاز.