المركز العربي للبحوث والدراسات : التفوق الدائم: نظرية الأمن الإسرائيلية وتحولات المشهد الإقليمي (طباعة)
التفوق الدائم: نظرية الأمن الإسرائيلية وتحولات المشهد الإقليمي
آخر تحديث: الإثنين 28/12/2015 10:42 ص د. محمد السعيد إدريس
التفوق الدائم:  نظرية
في الوقت الذي انشغل فيه الرأي العام المحلي والعربى بثورات ما سمى الربيع العربى وما تلاه من تداعيات أبرزها نشوء تنظيمات إرهابية في الكثير من البلدان العربية وتشكيل تحالفات دولية لمحاربتها، لم يلتفت كثيرون إلى الهدوء الذي باتت إسرائيل تنعم به في المنطقة الحافلة بالصراع والتوترات، وكيف ترى إسرائيل الصراع في المنطقة العربية وكيف تسعى للاستفادة منه لخدمة مصالحها وأهدافها.
حتى نتعرف تفصيلا على إجابة هذه التساؤلات يجب أن نعرف أن نظرية الأمن الإسرائيلية ارتبطت تاريخيا بالأزمة الوجودية للكيان الصهيونى، بمعنى أن ما تعيشه إسرائيل من تهديد لوجودها الاستثنائى في فلسطين العربية هو الذي يحدد أركان نظرية الدفاع عن هذا الوجود وتأمينه. من هنا كانت سياسة التوسع الإسرائيلية ركنا أساسيا من أركان هذه النظرية من منطلق أن «الهجوم خير وسيلة للدفاع» فحدود التقسيم التي رسمت للكيان الصهيونى عام 1948 اعتبرت مجرد نقطة ارتكاز وانطلاق لبناء الدولة اليهودية التاريخية والتوراتية على أرض فلسطين، واعتبر أن التوسع في الجوار الفلسطينى أولًا ثم في الجوار العربى ثانيا هو أفضل وسيلة لتأمين وجود الدولة اليهودية بحدود عام 1948.
تحويل الصراع ضد الإرهاب إلى حرب بين السنة والشيعة ينعش حلم تل أبيب التاريخى بعضوية تحالف «المعتدلين العرب»  بوصلة إسرائيل اتجهت شرقًا لبناء تحالف قوى مع موسكو بعد تزايد نفوذها في المنطقة على حساب التواجد الأمريكي.
يعتبر التفوق العسكري المطلق والنوعى على كل الدول العربية ركنا ثانيا في نظرية الأمن الإسرائيلية، الأمر الذي استوجب توفير ركن ثالث قادر على ضمان وتأمين هذا التفوق، ومن هنا كانت العلاقة الاستثنائية أيضا مع الولايات المتحدة التي تعهدت، وعلى مدى إداراتها جمهورية كانت أم ديمقراطية هذا التفوق.
وعلى مدى كل تلك السنوات كان العدو أو المصدر الأساسى لتهديد الأمن والوجود الإسرائيلى يشهد تحولا وتغيرا له علاقة مباشرة بمشاريع التوسع الإسرائيلى الأفقى على الأرض والرأسى في القدرات، فكانت مصر لفترة طويلة هي المصدر الأساسى للتهديد، وبعد توقيع معاهدة السلام عام ١٩٧٩ بدأ التركيز على مصادر عربية أخرى للتهديد: العراق ثم سوريا ثم ليبيا. وبعد القضاء على القوة الإستراتيجية العراقية بالغزو والاحتلال الأمريكى للعراق عام ٢٠٠٣ بدأ التركيز على الخطر الإيرانى، ثم على التحالف الثلاثى: إيران- سوريا- حزب الله التي باتت تُعرف جميعها في الأدبيات الإسرائيلية والأمريكية باسم «محور الشر».
الآن باتت تحولات المشهد الإقليمى بعد تفجر موجة الثورات العربية وسقوط أنظمة حليفة لإسرائيل كانت تصنف ضمن «محور الاعتدال العربى» خاصة نظام حسنى مبارك، ثم اندلاع الحرب في سوريا واليمن وسقوط نظام العقيد معمر القذافى وظهور خطر داعش وعلى الأخص في الساحتين العراقية والسورية بدأت إسرائيل في إعطاء الأولوية للخطر النووى الإيرانى في محاولة مستميتة لتنحية ملف تسوية القضية الفلسطينية جانبا، لكن توقيع الاتفاق بين مجموعة «٥+١» وإيران حول الملف النووى، ودخول إيران كطرف يحارب ضد الإرهاب أخذت إسرائيل تركز على ثلاثة ملفات أساسية تخدم نظرية الأمن الإسرائيلية وتتفاعل مع أبرز وأهم تطورات الصراع الإقليمى في الشرق الأوسط هي ملف توظيف الحرب ضد الإرهاب وتداعياتها الإقليمية لصالح فرض إسرائيل قوة إقليمية عظمى.

بعد الثورات العربية أخذت إسرائيل تركز على ثلاثة ملفات أساسية تخدم نظرية الأمن الإسرائيلية، خاصة توظيف الحرب ضد الإرهاب لصالح فرض إسرائيل قوة إقليمية عظمى
أولا: الحرب على الإرهاب
تدرك إسرائيل أهمية ما حدث من تدمير للقدرات الإستراتيجية العربية في كل من العراق وسوريا، وتتطلع إلى تدمير قدرات عربية أخرى، وتتحسب لجهود تسوية الأزمة السورية وبالذات لدخول روسيا كطرف مباشر في الحرب على الإرهاب في سوريا جنبا إلى جنب مع كل من إيران والنظام السورى و«حزب الله». فالإسرائيليون منشغلون الآن بثلاث قضايا محورية شديدة الارتباط بتطورات الحرب الدائرة على الإرهاب في سوريا والعراق.
القضية الأولى هي الانتشار العسكري الروسى المكثف في سوريا في ظل العزوف الأمريكى عن أي تورط عسكري جديد في العراق أو سوريا، وما يعنيه هذا الانتشار، وما التحالفات التي ستنشأ نتيجة هذا الانتشار، وبالذات التحالف الروسي- الإيرانى، والصراع الروسي- التركى، واحتمالات التمدد الروسى في العراق ردا على التورط التركى في شمال العراق؟
وكيف سينعكس كل ذلك على المكونات العرقية في المنطقة وبالذات المكون السُنى وعلاقته بالمكون الشيعى، وعلى الدول الداعمة لكل من هذين المكونين أي ما يسميه الإسرائيليون «العرب السُنة» خاصة السعودية ودول الخليج و«العرب الشيعة» في العراق وسوريا ولبنان، ومستقبل العلاقة بين هذين المحورين أي: العرب السُنة والعرب الشيعة؟ وكيف سيؤثر هذا كله على مصالح وأمن إسرائيل من ناحية وعلى تحالفات إسرائيل الإقليمية من ناحية أخرى ؟
أما القضية الثانية فهى، وكما كتب المعلق الإسرائيلى «يعقوب عميدور» فهى زيادة كثافة الوجود العسكري الإيرانى في سوريا وتمدد نفوذ «حزب الله» على الأراضى السورية، فإسرائيل تخشى من توجه إيرانى مسنود من حزب الله لتأسيس جبهة قتال ضد إسرائيل في الجولان المحتل، وتخشى من استفادة مقاتلى حزب الله من خبرة القتال في سوريا، وانعكاسات ذلك على توازن القوى على جبهة الصراع في جنوب لبنان، والأهم هو خطر تحول إيران إلى جار ملاصق لإسرائيل على الأرض السورية.
القضية الثالثة هي خطر تفكك سوريا كاحتمال وارد للصراع الدائر، وهنا يخشى الإسرائيليون من نزوح الملايين من الكتلة السكانية السُنية، ومن ثم تفوق الكتلة العلوية وما يعنيه ذلك على مستقبل النظام السياسي السورى. كما يخشى الإسرائيليون من احتمال ظهور دويلات تسيطر عليها جماعات إسلامية متطرفة، إذا ما سقط نظام بشار الأسد.
هذه القضايا الثلاث تثير مخاوف إسرائيلية مكثفة أول هذه المخاوف ما يسمونه «فراغ القوة» الناشئ عن الغياب الأمريكى الإرادى في ظل تشبث الرئيس الأمريكى أوباما بعدم التورط عسكريا في سوريا أو العراق والاكتفاء بتقديم الدعم العسكري للحلفاء والتعويل على الضربات الجوية لتنظيم «داعش». فراغ القوة هذا يغرى، ومن وجهة نظر الإسرائيليين، روسيا باعتبارها أكثر طرف دولى مهيأ لذلك، ومن ثم يحرصون على التنسيق العسكري مع روسيا كحليف محتمل مع تراجع دور ونفوذ الحليف الأمريكى، وبهدف محاولة احتواء التحالف الإيراني- الروسى وتقليل مخاطره.
التخوف الثانى هو فرص تأسيس تحالف إستراتيجي إيراني- روسى وهنا يراهن الإسرائيليون على تنافس محتمل بين إيران وروسيا على النفوذ في سوريا، أما التخوف الثالث، فهو من تأسيس محور لعرب الشيعة تقوده إيران وروسيا، وهنا يأتى التوجه الإسرائيلى نحو خلق محور منافس لعرب السُنة تقوده إسرائيل وتدعمه الولايات المتحدة، وهو الطموح الإسرائيلى القديم الذي يرجع تاريخه إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف ٢٠٠٦.
الآن يتزعم كل من موشيه يعلون وزير الدفاع الإسرائيلى وإسحق هيرتزوج زعيم المعارضة الإسرائيلية الدعوة إلى «تشكيل حلف مشابه لحلف شمال الأطلسى (الناتو) بين إسرائيل والدول العربية السُنية المعتدلة في موقفها من إسرائيل لمواجهة تحالف العرب الشيعة الذي تقوده إيران، هذه الدعوة يراها الإسرائيليون فرصة لتجديد الوظيفة التاريخية لإسرائيل على المستوى الإقليمى، حيث تطرح إسرائيل نفسها كقوة إقليمية عظمى قادرة على حماية الدول العربية الحليفة ضد الأعداء الجدد أي «العرب الشيعة»، وهنا نلحظ كيف أن إسرائيل بدأت تتفاعل بجدية مع جهود الرئيس التركى رجب طيب أردوغان لحل الخلافات التركية- الإسرائيلية.
إسرائيل تتابع دعوة المملكة العربية السعودية لتأسيس حلف إسلامى للحرب على الإرهاب، كما تلحظ التجاوب التركى مع هذه الدعوة، وتأمل أن يكون التقارب الإسرائيلي- التركى، وعضوية تركيا في حلف السعودية مدخلًا للتقارب مع هذا الحلف الذي كانت تأمل أن يكون «الحلف السُنى» الذي تريده وتأمله للتحول من مهمة الحرب ضد الإرهاب إلى مهمة الحرب الداخلية العربية- العربية، بين ما تسميهم «العرب الشيعة» و«العرب السُنة»، فتفجير كذلك لن يخلص إسرائيل من الخطر الإيرانى فحسب بل وسيخلصها أيضا مما تبقى من أي خطر عربى محتمل.

يخشى الإسرائيليون من احتمال ظهور دويلات تسيطر عليها جماعات إسلامية متطرفة، إذا ما سقط نظام بشار الأسد
ثانيا: مجابهة "الإرهاب" الفلسطيني
حرصت إسرائيل دائما على وصم العمل الفدائى الفلسطينى بالإرهاب، كما حرصت منذ نشأتها على تضخيم دعوة «المظلومية التاريخية اليهودية» و«المظلومية التاريخية الإسرائيلية». استخدمت الترهيب بالعداء للسامية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لابتزاز العالم للحصول على المساعدات التي تريدها خاصة من ألمانيا وكل الدول الغربية، ثم جاء استغلال العداء الإيرانى وشعار «الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل» لوضع إيران في بؤرة ومصدر التهديد الأساسى للوجود الإسرائيلى، لكن بوصول الإرهاب الأصولى ممثلًا في تنظيم «داعش» إلى المجتمعات الغربية وجدت إسرائيل أن دعوة «المظلومية التاريخية» باتت معرضة للتآكل كما وجدت أيضًا أن «حصرية الضحية» سواء كانت يهودية أم إسرائيلية آخذة في التآكل بفعل ثلاثة تطورات:
أولها: تحول السلفية الجهادية بأشكالها المختلفة إلى التهديد الإرهابى الأول على جدول الأعمال الدولى (الغربى تحديدا)، وثانيها تحول الغرب إلى ضحية مباشرة ومستدامة لهذا التهديد الإرهابى. هذان التطوران انتقصا من الوزن النسبى لدعوة «المظلومية اليهودية» فتعريف الإرهاب وتحديد هوية المتصفين به لم يعودا حكرا على إسرائيل، بل لم يعد التعريف الإسرائيلى هو الأولى عند الغرب، كما لم تعد إسرائيل نفسها الضحية الأبدية أو الوحيدة للإرهاب، ولعل هذا ما يفسر حدة الرد الإسرائيلى على ما ورد على لسان سفير الاتحاد الأوروبي في تل أبيب لارسى فوبورج أندرسين عندما قال في حديث إذاعى إنه «لا تجوز مقارنة إرهاب داعش الذي تواجهه أوروبا والذي يجب استخدام القوة ضده بعمليات الطعن التي يقوم بها الفلسطينيون والتي يجب القيام بخطوات سياسية ودبلوماسية لحلّها».
موقف الخارجية الإسرائيلية من هذا التصريح يعكس بوضوح عمق المأزق المعنوى والسياسي الذي بدأت إسرائيل تعانى منه، فالبيان الصادر عن وزارة الخارجية الإسرائيلية قال «نحن نرفض التمييز الذي يقوم به سفير الاتحاد الأوروبي بين الإرهاب الفلسطينى وإرهاب داعش» وزاد «إرهاب داعش يسعى إلى تدمير أوروبا والإرهاب الفلسطينى يسعى إلى تدمير إسرائيل. أقوال السفير الأوروبي تنطوى على ازدواجية معايير فيما يخص الإرهاب الذي يهدد الجميع».
التطور الثالث الذي حدث ضمن تداعيات الحرب على إرهاب داعش في سوريا هو تحول أطراف متهمة إسرائيليا بأنها أصل الإرهاب الذي يهدد إسرائيل: «إيران وحزب الله وسوريا» إلى حليف موضوعى للغرب في الحرب على الإرهاب، وحليف فعلى لدولة عظمى هي روسيا في الحرب نفسها. هنا كانت الصدمة الحقيقية التي واجهت إسرائيل ولم تكن تتوقعها، وهذا ما دفعها إلى شن هجوم مركز على الإدارة الأمريكية واتهامها أولًا بالتقاعس أولًا في محاربة داعش وخاصة بعد التصريحات الأخيرة للرئيس باراك أوباما التي أكد فيها أنه لن يرسل قوات برية إلى سوريا وأنه لن يغير من سياسته في الحرب على الإرهاب، واتهامها ثانيا بأنها مسئولة عن دمج أطراف إرهابية مثل إيران وحزب الله ونظام بشار الأسد في مهمة الحرب على الإرهاب.
إدراك إسرائيل لخطورة هذه التطورات دفعت إلى تبنى إستراتيجية جديدة سياسية وإعلامية الغاية منها استعادة زمام إدارة الصراع الإقليمى واحتكار المظلومية التاريخية والحيلولة دون حدوث تطورات ذات صفة انقلابية في موازين القوى العسكرية والسياسية في الشرق الأوسط تضمنت النقاط التالية:
حرصت إسرائيل منذ نشأتها على تضخيم دعوة «المظلومية التاريخية اليهودية» و«المظلومية التاريخية الإسرائيلية
تقديم إسرائيل على أنها تقع في بؤرة الاستهداف الإرهابى من «داعش» وحلفائها الفلسطينيين خاصة في قطاع غزة، والتركيز على وجود حلفاء لداعش في قطاع غزة.
الربط بين الإرهاب الفلسطينى والإرهاب الإسلامى والتعامل مع الإرهاب الفلسطينى على أنه مجرد فصيل إرهابى إسلامى يرى إسرائيل المجال الأولى بإرهابه. والتعامل مع منظمات المقاومة الفلسطينية أو «الإرهاب الفلسطينى» على أنه الوجه الآخر لإرهاب «داعش» خاصة بعد أحداث باريس. التهويل من الخطر الذي يمثله النظام الإيرانى بقدراته العسكرية المتفوقة مقارنة بقدرات تنظيم «داعش». الربط بين تهديد «داعش» وتهديدات إيران الموجهة ضد إسرائيل على نحو ما جاء على لسان بنيامين نتنياهو (٢/٧/٢٠١٥) «إننا نواجه تهديدين: «داعش» وإيران. يجب ألا تقوى أحدهما على حساب الآخر. يجب إضعافهما ونحبط تهديد كليهما». وقوله «أنا غير معنى بانهيار داعش لمصلحة تعزيز قوة إيران وحلفائها في سوريا» (١/١٢/٢٠١٥).
التصريح الأخير يكشف جوهر رؤية إسرائيل للدور الذي تقوم به إيران دعما للنظام السورى ضد إرهاب داعش وهى رؤية تعارض إضعاف داعش. وتكشف العلاقة الخفية بين إسرائيل وداعش والرهان الإسرائيلى على الأدوار التخريبية التي يقوم بها «داعش» والتي تخدم المصالح الإستراتيجية لإسرائيل.

ثالثا: خيار الدولة الواحدة اليهودية
الركن الثالث الذي تقاتل إسرائيل من أجله ضمن تطوير نظريتها الأمنية وتكييف هذه النظرية مع مجمل التطورات العربية والإقليمية هو محصلة الأداء الإسرائيلى في التعامل مع تلك التطورات، أي الاستفادة من حالة التدمير الممنهج للقدرات والطاقات العربية وفرض خيارات «العدو البديل» سواء كان إيران أم الحلف الشيعى بالعمل على إفشال دعوة خيار أو حل الدولتين المدعوم عربيا وأمريكيا لفرض خيار الدولة اليهودية الواحدة.
فقادة الكيان الصهيونى، بكل تصنيفاتهم السياسية والأيديولوجية، ليسوا أبدا مع «حل الدولتين» وليسوا أبدا مع خيار حل «الدولة الواحدة ثنائية القومية» أي دولة واحدة يعيش فيها اليهود وغير اليهود، ولكنهم، بعيدا عن كل عبارات الهروب وتجميل القبيح مع خيار «دولة واحدة لشعب واحد» أي الدولة الواحدة اليهودية بدون العرب. فالأرض كلها هي للشعب اليهودى وحده، دون غيره، وما هو دون ذلك محض هروب وكسب للوقت أو جدولة للمطالب للوصول في نهاية الأمر إلى أن الأرض الممتدة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط هي كلها الدولة اليهودية للشعب اليهودى والوجود العربى في هذه الأرض هو «محض احتلال»، فالأرض هي أرض اليهود والعرب محتلون منذ أن دخلوها مع الإسلام، وحرب ١٩٤٨ هي حرب تحرير مؤكدة المعانى.

تحاول إسرائيل الاستفادة من حالة التدمير الممنهج للقدرات والطاقات العربية وفرض خيارات "العدو البديل" لفرض خيار الدولة اليهودية الواحدة
عقب إلقاء كيرى خطابه المذكور أسرع بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة «الإسرائيلية» بالرد عليه بعنف واستهزاء حيث أكد أن «الحل الممكن للنزاع الفلسطينى الإسرائيلى، يتمثل بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح تعترف بإسرائيل كدولة يهودية، وأن إسرائيل لن تكون أبدا دولة ثنائية القومية». أما أغلب وسائل الإعلام «الإسرائيلية» فقد استقبلت خطاب كيرى بمزيج من السخرية والتوبيخ، سواء بالنسبة لما حذر منه من مخاطر قد تترتب على إقدام الرئيس الفلسطينى على اتخاذ قرار حل السلطة أو لمخاوفه على مستقبل «إسرائيل» كدولة يهودية خالصة عندما حذر من اختلال التوازن الديموجرافى لصالح العرب في المستقبل إذا ما كان خيار الدولة ثنائية القومية هو الحل كبديل للإفشال «الإسرائيلى» المتعمد لخيار الدولتين المستقلتين، وسؤاله: «كيف ستحافظ إسرائيل على طابعها كدولة يهودية في حين أنه بين نهر الأردن والبحر المتوسط لن تكون أغلبية يهودية؟».
سخر الكاتب يورام إتنغر في صحيفة «إسرائيل اليوم» الموالية لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو من تحذيرات جون كيرى وقال إن «كيرى يحاول التنازل عن الجغرافيا من أجل الديموغرافيا استنادا إلى معطيات ديموغرافية مغلوطة، ويرى يورام إتنغر أنه «خلافا لأقوال كيرى، لا توجد قنبلة ديموغرافية عربية، بل أغلبية يهودية قوية. ففى يهودا والسامرة (الضفة الغربية) يوجد ٦.٦ مليون يهودى (٦٦٪) مقابل ٣.٤ مليون عربى، الأمر الذي ينشئ دفعة قوية غير مسبوقة في مجال التكاثر والهجرة».
صحف «إسرائيلية» أخرى كانت أكثر تفاؤلًا من هذه الناحية بالزعم أن «الولادة اليهودية هي الوحيدة في الغرب التي في ارتفاع، ونحن أيضا نتوقع قدوم مليون يهودى جديد في السنوات القادمة»، ولعل هذا ما حفز عضو الكنيست «موتى يوجاب» على الرد بمزيد من الاستهزاء من مخاوف كيرى على «إسرائيل» مذكرا بأن «الواقع أثبت أن تقديرات ونشاطات جون كيرى السياسية في العديد من المناطق في العالم كانت سلسلة من الأخطاء والإخفاقات: في مصر، أوكرانيا، وسوريا وأيضًا في (إسرائيل) فآراؤه وخطاباته منفصلة عن الواقع الشرق أوسطى».
أهم ما كشفه هذا النائب هو رؤيته للحل الأمثل للأزمة أو للقضية الفلسطينية خارج حل الدولتين، بل وخارج حل الدولة الواحدة ثنائية القومية المرفوضة بالمطلق. فحسب رؤيته «لم تكن هنا أبدا (يقصد أرض فلسطين) أي دولة فلسطينية، وإلى الأبد لن تقوم. ومسئوليتنا في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) كانت وستبقى لأمننا ولتعزيز الاستيطان في كل أرجاء إسرائيل. إن جزءا من الرد على الإرهاب (الانتفاضات الفلسطينية) هو التأكيد على أن عودتنا إلى يهودا والسامرة تمت لترسيخ سيطرتنا والبقاء فيها إلى الأبد».
هذه هي الحقيقة التي لا يريد العرب تصديقها. فهم داخل الكيان لا يتحدثون عن احتلال «إسرائيلى» للضفة الغربية بل يتحدثون عن «عودة يهودية» إلى يهودا والسامرة، ويؤكدون أنها عودة إلى الأبد، أي إنهاء الوجود العربى في الضفة الغربية وبالأساس في القدس المحتلة، ما يعنى كشف الغطاء عن وهم ما يسمى «حل الدولتين» الذي يروج له الأمريكيون ويصدقه العرب وينتظرونه.
يرتبط بهذه الحقيقة الخاصة بالتمسك بدعوة الدولة اليهودية كحل نهائى للصراع مع الشعب الفلسطينى حقيقة أخرى مرتبطة بها هي أن سياسة الاستيطان في الضفة الغربية في تصاعد وأنها أداة التهويد وفرض يهودية الضفة وغزة كجزء أساسى من أرض إسرائيل، وأن هذه السياسة يجرى تنفيذها اعتمادا على الاستمرار في الترويج لسياسة أو لحل الدولتين كغطاء لابد منه لاستكمال مشروع الاستيطان والتهويد، وهذا ما أكده نفتالى بنيت زعيم حزب «البيت اليهودى» وزير التعليم المتطرف والمناوئ لبنيامين نتنياهو بدعوته إلى فرض السيادة «الإسرائيلية» في تجمع مستوطنات «غوش عتصيون» ومنع العرب في تلك المنطقة حقوق الإقامة أو المواطنة، وزاد على ذلك بقوله: «إذا كان غوش عتصيون ليس لنا فماذا نفعل نحن فيه، وإذا كان لنا ينبغى أولًا ضمه إلى إسرائيل».
بنيت قال هذا قبيل وصول وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى إلى تل أبيب في زيارته الأخيرة للكيان الصهيونى أوائل هذا الشهر في رسالة مسبقة مفادها أنه لا حديث عن «حل الدولتين» ولا قبول لأى دعوة لوقف سياسة الاستيطان، وأن ضم مستوطنات الضفة هو السياسة «الإسرائيلية» المؤكدة. حقائق متداخلة وإستراتيجية واضحة المعالم لتطوير نظرية الأمن الإسرائيلى في تفاعلاتها مع الأحداث والتطورات العربية والإقليمية التي تسعى إسرائيل إلى تحويلها إلى مصادر قوة لدعم هذا الأمن وحماية وجودها الذي تدرك أنه استثنائى والذي تشعر دائما أنه مهدد باعتبارها استعمارًا استيطانيًا لوطن اسمه فلسطين ولحقوق شعب اسمه الشعب الفلسطينى.