المركز العربي للبحوث والدراسات : فهم السلوك: قراءة في اتجاهات المشاركة في انتخابات 2015 (طباعة)
فهم السلوك: قراءة في اتجاهات المشاركة في انتخابات 2015
آخر تحديث: الخميس 01/10/2015 11:53 ص د. أحمد موسى بدوي
فهم السلوك: قراءة

في عام 2010، أجريت آخر انتخابات برلمانية مزوّرة، وصفها جلال أمين بأنها تمثل عملًا فجًا عديم النظير في غلظته في تاريخ الانتخابات المصرية. أصابت المصريين بحالة الكف عن الممارسة السياسية وليس مجرد اللا مبالاة، ثم يُدْعَى الناخبون خلال الفترة من مارس2011 حتى مايو 2014، إلى سبع فعاليات متوالية. وهم مدعوون الآن إلى المشاركة في انتخاب برلمان ما بعد الثورتين. وهذا المقال محاولة لفهم سلوك المشاركة في هذه الفاعليات، وهل من الممكن أن يحدث تغيير في هذا السلوك في الانتخابات القادمة.

أولاً: تطور المشاركة في الانتخابات 2011-2014

·        الاستفتاء على الإعلان الدستوري2011

منذ البداية، انجرّت الثورة المصرية، إلى المسار الخاطئ فبدلا من البدء بكتابة الدستور، سعت قوى الإسلام السياسي إلى الهيمنة، عبر إجراء انتخابات برلمانية ثم رئاسية، وفق إعلان دستوري مُريب، ثم كتابة دستور، يستند إلى هذه الهيمنة ويكرسها. في هذه الأجواء غير الديمقراطية، أجري الاستفتاء على الإعلان الدستوري، وشارك فيه 18,5 مليون مواطن، بنسبة 41,2%، وانتهت المعركة، بموافقة 77% على الإعلان، ورفض 22%. هذه النسبة كانت منذرة بأن شيئا ما يسير في الاتجاه الخاطئ، غير أن تيارات الإسلام السياسي لم تلتفت لهذه النتيجة، ومضت في طريق صعودها السياسي، دون أن تعي بأنها تنزلق إلى المنحدر. ولحشد المصريين استخدمت هذه القوى، منابر المساجد، وروجت المسألة السياسية، بوصفها مسألة دينية بامتياز، إلى حد وصف الاستفتاء بأنه "غزوة الصناديق" . لا شك أن خوفا قد استبد بقطاع كبير من المصريين جراء هذه الممارسات الإقصائية الرجعية، وخاصة الأقباط، والقوى الشبابية التي باتت تشعر بأن ثورتهم قد سرقت، بتبدل النظام من تسلطي إلى ثيوقراطي.

·        المشاركة في انتخابات مجلسي الشعب والشورى2011-2012

غالبية المصريين لم ينشغلوا كثيرًا بالأهداف السياسية المعلنة للثورة المصرية، (تحقيق الديمقراطية، ضمان الحريات السياسية...إلخ) ولكنهم كانوا أكثر اهتماما بالأهداف الاقتصادية والعدالة الاجتماعية المرجوة من قيام الثورة، يرغبون فينظام جديد يقضي على الفساد والمحسوبية، وقادر على توفير فرص العمل، ورفع الأجور، وتحسين الخدمات الزراعية للفلاحين، وخفض تكاليف الخدمات التعليمية والصحية ومستلزمات المعيشة للناس.

شارك في الاستفتاء على دستور 2014، أكثر من 20 مليون مواطن، بنسبة 38% وحاز القبول بنسبة فاقت 98% بقليل

الفقراء في هذه اللحظة التاريخية، مشدودون بقوة لا شعورية نحو ضمان أمنهم الوجودي، وفي هذا السياق تبدو الحاجات الأساسية للإنسان (المأكل، المشرب، المأوى، المشفى، المدرسة)، هي الأكثر إلحاحا. وهذا ما لعبت على أوتاره قوى الاسلام السياسي، حين حلت انتخابات مجلس الشعب - الخطوة الثانية في مسار الانتقال الديمقراطي الأعوج- وأنفق المال السياسي، لابتزاز الأصوات وخديعة الناخبين، مدعومة بشبكة خدمات اجتماعية كبيرة، محتكرة الشعار الذي لم يختبر (الإسلام هو الحل). خرج المصريون للتصويت لتلك القوى على أمل أن تحقق لهم ما يحلمون به من عدالة اجتماعية، ومستوى معيشة لائق، وحياة اجتماعية عادلة.

لذلك فقد ارتفع عدد المشاركين إلى 27 مليون ناخب، بنسبة مشاركة بلغت 54% ، بزيادة 9 ملايين ناخب عن الاستفتاء. وبدا أن الجميع يتقبل نظام الحكم الجديد، وينتظر أن تكون ممارسة الإسلام السياسي على قدر الثقة الممنوحة له. غير أن المصريين شعروا من أول جلسة للمجلس الجديد بخيبة أمل كبيرة، وشاهدوا على شاشات التلفاز، ممارسات سياسية متواضعة، تتسم بقدر كبير من الرعونة. الأمر الذي انعكس مباشرة على المشاركة في انتخابات مجلس الشورى، التي أجريت في أعقاب تشكيل مجلس الشعب. لم يخرج المصريون لهذه الانتخابات، لسببين، الأول اعتقادهم الصحيح، بأنه مجلس عديم الجدوى، وثانيا الإحباط الذي ساد الشارع المصري، بعد انعقاد الجلسات الأولى لمجلس الشعب، لذلك فقد تغيب عن انتخابات الشورى 87% ممن لهم حق التصويت.

·        المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأولى

لم يفقد المصريون الأمل، بعد أن جرى حل مجلس الشعب بحكم قضائي، ويبدو كذلك أن الانتخابات الرئاسية، مثلت فرصة جديدة بالنسبة لجميع القوى السياسية، بما فيها المنتمية للنظام القديم، فتقدم للترشح عددا من رموز من التيار الليبرالي، واليساري، والإسلامي الإخواني  والسلفي، فضلا عن أحمد شفيق الذي اعتبر ممثلا للنظام القديم. ما جعل التنافس يشتد، فعادت نسبة المشاركة للارتفاع مرة أخرى، لتصل في جولة الإعادة إلى نحو 52%. ورفض أكثر من نصف المصريين بقليل، إعادة انتاج النظام القديم ممثلا في أحمد شفيق، ونجح مرشح الإخوان بأصوات المؤيدين له والمضطرين للتصويت لصالحه. غير أن هذه النتيجة، كانت منذرة مرة أخرى، فقد تبلور لأول مرة موقف المصريين من حكم الإخوان المسلمين وحلفائهم،  وبدا واضحًا أن نصف المصريين على الأقل لا يثقون في هذا الحكم.

فهم السلوك: قراءة

 

·        الاستفتاء على الدستورين 2012، 2014:

دون الخوض في التفاصيل، فإن المشاركة في الاستفتاء على دستور 2012، عادت للانخفاض مرة أخرى، وشارك فيها 17 مليون مواطن، بنسبة 33% غير أن المشاركة اتسمت بالإيجابية، على معنى أن عددا كبيرا من المصريين (6ملايين مواطن) خرج لرفض الدستور، والطريقة التي كتب بها، وربما تكون هذه الكتلة الرافضة، هي النواة الصلبة التي بنيت عليها ثورة 30 يونيه.

وعلى العكس، شارك في الاستفتاء على دستور 2014، أكثر من 20 مليون مواطن، بنسبة 38%  وحاز القبول بنسبة فاقت 98% بقليل. لكن على الجملة فإننا أمام وعي سياسي منخفض، فالدستور هو أساس استقرار أي دولة، وهو بالتأكيد أهم من أية فاعليات سياسية أخرى، ومع ذلك فقد تدنت المشاركة بصفة عامة في كلتا المناسبتين.

·        المشاركة في الانتخابات الرئاسية الثانية

 ارتفعت المشاركة من جديد في هذه الانتخابات، إلى أكثر من 47% بحضور 25,2 مليون ناخب، وحصل فيها رئيس الجمهورية السيد عبد الفتاح السيسي على ما يقرب من 97% من جملة الأصوات الصحيحة. والرسم البياني التالي يصور منحنى المشاركة في الفاعليات المذكورة. ويتضح منه أن متوسط المشاركة في الفاعليات السبع السابقة على انتخابات برلمان ما بعد الثورتين. قد تدنى إلى 34,7%، لكن إذا  طرحنا انتخابات الشورى من الحساب، فإن المتوسط سوف يرتفع إلى 44%.

المتوقع أن ترتفع نسبة المشاركة في الانتخابات القادمة، عن متوسط المشاركة، ولكنها في كل الأحوال لن تتجاوز 40% بكثير

ثانياً: المشاركة المتوقعة في الانتخابات البرلمانية القادمة

المتوقع أن ترتفع نسبة المشاركة في الانتخابات القادمة، عن متوسط المشاركة، ولكنها في كل الأحوال لن تتجاوز 40% بكثير، لعدة أسباب:

(1) لم يحدث تغيير في العوامل الاجتماعية والثقافية التقليدية التي تثبط همة المصريين عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، فلا تزال النظرة إلى الديمقراطية مشوشة لدى الغالبية العظمى من المواطنين، بسبب أنهم  لم يتعرضوا لممارسة ديمقراطية حقيقية، تجعلهم يفهمون معناها كقيمة كبرى وضرورة، فالغالبية العظمى يتشدقون بكلمة الديمقراطية، ويمارسون التسلط  في الحياة الاجتماعية، ابتداء من الأسرة، المدرسة، الجامعة، محل العمل، وانتهاء بالنظام السياسي.

(2) كما لا تزال فكرة الحزب السياسي، فكرة غريبة عن قطاعات كبيرة من المصريين، فمنذ انطلاق التعددية الحزبية عام 1976، ولا يحمل الحس المشترك المصري سوى ميراث غاضب تجاه هذه الفكرة، والحقيقة أن نظام مبارك، والحزب الوطني، قد أسهما مباشرة في تدمير الحياة الحزبية في مصر، فصارت وحتى الآن أحزابا بلا جماهير. ونأمل أن يرتفع وعي المواطن، ويحول دون وصول بعض رموز النظام السابق إلى البرلمان الجديد، حتى لو كانت رموزا خالية من الشبهات، لأنها شخصيات عقيمة سياسيا، لا تملك جديدا تقدمه. ونأمل أن يعطي ثقته لكوادر جديدة لم تخبر تجربة الحكم، سواء قبل الثورة أو بعدها.

(3) غير أن  هناك حالة من عدم اليقين، لدى الناخب المصري، بكل مستوياته الثقافية، ربما تدفع إلى انخفاض نسبة المشاركة، فعدد كبير ممن تقابلت معهم وأنا في طور الإعداد لهذا المقال، غير متأكدين من الذهاب إلى الانتخابات، ومعظمهم لا يعرف إلى أي قائمة حزبية سوف يصوت إن قرر المشاركة. على معنى أن اختيار اللحظة الأخيرة، وربما المصادفة، هما من سيحسم النتيجة لصالح هذه القائمة الحزبية أو تلك.

مع ارتفاع معدلات الأمية، وارتفاع معدلات الفقر ربما تشهد الانتخابات توظيفا نشيطا للرشاوى الانتخابية، يؤدي إلى زيادة طفيفة في نسبة المشاركين

(4) وعلى مستوى المقاعد الفردية، لا يزال المجتمع ينظر إلى المترشحين لمجلس النواب نظرة سلبية، ويعتبرهم رموزًا  فاسدة، أو على الأقل تبحث عن مصالحها الشخصية، وتسعى للحصول على النفوذ والحصانة.  ويبدو أن بعض المرشحين وجُل الناخبين لا يملكون المعرفة الضرورية عن المجالس النيابية ودورها التشريعي والرقابي، ما يعني أن الأمر في النهاية يتعلق، بالقبول أو الرفض الشخصي.

 

 (5) وإذا أضفنا ارتفاع معدلات الأمية، ومعدلات البطالة بين الشباب، وارتفاع معدلات الفقر بين الطبقة العاملة والفلاحية وقطاع من الطبقة الوسطى، فربما تشهد هذه الانتخابات توظيفا نشيطا للرشاوى الانتخابية، يؤدي إلى زيادة طفيفة في نسبة المشاركين العاملين في (سبوبة الانتخابات).

 

(6) لا تملك الحكومة المصرية القدرة المؤسسية على مراقبة الصرف على الانتخابات، ما يعني أن الكوادر السياسية المتميزة، التي يمكن أن تثري الحياة البرلمانية، لن تجد لها مكانا في البرلمان الجديد، بسبب ضعف إمكاناتها المالية، وعدم قدرتها على مجاراة فوضى الصرف على الدعاية والرشاوى الانتخابية.

 

(7) يضاف إلى العوامل السابقة، وربما يسبقها جميعا، أن الحكومة أخفقت في صياغة قانون انتخابات يأخذ بمصر نحو تثبيت الديمقراطية، وتطوير الحياة الحزبية، مكرسًا العوامل التقليدية. وربما يتخذ بعض الناخبين موقفا لمعاقبة مصدري القانون، بتقرير عدم المشاركة في الانتخابات.

في كل الأحوال، نحن أمام حالة مجتمعية مصرية ( عربية) تتدنى فيها معدلات المشاركة السياسية بصفة عامة، نتيجة جملة من العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية، والتغير في هذه العوامل هو الذي سيدفع بمعدلات المشاركة إلى الأعلى، ودون ذلك فستبقى نسبة المشاركة ضعيفة، الآن ومستقبلا، وبسببها يمر إلى المجالس النيابية من يعيد تكريس الفقر والجهل والمرض. نتمنى ألا يحدث، وأن تدفع المصادفة بنخبة وطنية لشغل مقاعد البرلمان القادم.