لقد كانت موجة النقد الذاتي الأولى إذن شعارها
"النكبة"، والتي أدت إلى ظهور كتابات عربية عديدة، من منطلقات
إيديولوجية شتى وسياسات مختلفة، وأحيانًا متعارضة لتجاوز هذه الهزيمة العربية التي
أدت إلى إنشاء دولة إسرائيل الصهيونية على أرض فلسطين. انطلقت صيحات تدعو لأهمية
الرجوع إلى الدين الصحيح، مختلطة بصيحات تدعو إلى الاعتماد على ثورية الطبقات
العامة والتضامن الأممي، بالدعوة إلى تبني التكنولوجيا، مختلطة بأهمية الليبرالية
السياسية وضرورة احترام القيم السائدة في العالم المتقدم.
ظلت هذه الدعوات سابحة في الفضاء السياسي العربي إلى أن
ظهرت الانقلابات العسكرية الأولى في العالم العربي، والتي تتابعت بصورة فوضوية إلى
أن جاءت ثورة يوليو 1952 والتي كانت تاريخًا
فاصلًا في الممارسة السياسية
العربية بين "الانقلاب" و"الثورة". نعم لقد بدأت كانقلاب
عسكري، غير أنه سرعان ما تحولت إلى ثورة متبنية البرنامج الاجتماعي النقدي للحركة
الوطنية المصرية قبل 1952، هذه الحركة التي ساهمت في صياغة منطلقاتها وأفكارها – رغم
تعدد المنابع واختلاف الاتجاهات– كل القوىالمصرية من أول الإخوان المسلمين بكتاب
مفكرهم البارز "سيد قطب" عن "العدالة الاجتماعية في الإسلام"
إلى الشيوعيين المصريين، مرورًا بحزب مصر الفتاة الذي تحول ليصبح الحزب الاشتراكى،
إلى يسار الوفد والمستقلين.
ثورة يوليو 1952 تاريخ ينبغي أن نقف عنده طويلًا في هذا السياق، لأنها الثورة التي حاولت أن
تطبق ما دعا إليه الخطاب العربي في النقد الذاتي بعد هزيمة 1948.
لقد تبلور برنامج الثورة ليكشف عن مجموعة من القيم
الأساسية التي دعا لها المثقفون العرب لتجاوز الهزيمة: الحرية للمواطن، في إطار من
الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وإعادة صياغة المجتمع لتنقله من التخلف واللحاق
بركب المعاصرة، وأهم من ذلك الدعوة إلى الوحدة العربية انطلاقا من إيديولوجية
القومية العربية، التي عرفت أزهى عصورها بعد ثورة يوليو 1952.
بين الموجة الأولى للنقد الذاتي التي بدأت عام 1948،
والموجة الثانية التي أعقبت هزيمة يونيو 1967، مرت تسعة عشر عامًا كاملة حدثت فيها
تطورات شتى على الصعيد العالمي وفي المحيط الإقليمي. سقطت نظم عربية، وقامت نظم
أخرى، وأصبح النفط عاملًا أساسيًا في السياسة العربية، ودار جدل وصراع عنيفان بين
النظم التقدمية والنظم الرجعية، واشتعلت معارك بالغة الضراوة والعنف بين القوميين
والماركسيين، ثم بين القوميين والقوميين، والماركسيين والماركسيين، دار كل ذلك في
إطار صياغة وتنفيذ المشروع الحضاري القومي الناصري، الذي شد أبصار العالم العربي
كله من المحيط إلي الخليج،ً والذي أثر بفعله إيجابًا وسلبًا على مجمل السياسة
العربية، ثم في لحظة خاطفة، وبالذات في الساعات الأولى من 5 يونيو 1967 سقط الصرح
الشامخ نتيجة هزيمة عسكرية ساحقة لم تكن أبدًا
في الحسبان.
وهكذا ظهرت الموجة الثانية من موجات النقد الذاتي العربي
عقب "النكسة" ولعل كتاب "صادق جلال العظم" "النقد الذاتي
بعد الهزيمة" هو أبرز كتب النقد الذاتي في هذه المرحلة. كانت النكسة هي الاسم
المستعار للهزيمة، والذي أطلقته عليها السلطة الناصرية. وبالتالي أخذ قاموسنا
يزدحم بالمصطلحات الإشارية الاستعارية، بدأنا بالنكبة عام 1948، وانتهينا بالنكسة
عام 1967. والموجة الثانية من موجات النقد الذاتي تحتاج منا إلى وقفة متعمقة.
ثانيًا : الشخصية القومية
العربية باعتبارها من بين عوامل الهزيمة العربية
مفهوم الشخصية الفهلوية،
محاولة تأملية
لعل كتاب "صادق جلال العظم" "النقد
الذاتي بعد الهزيمة" يعد من أنضج الكتابات العربية في دراسات النقد الذاتي
التي مارسها المفكرون العرب بعد الهزيمة. ويرد ذلك أساسا إلى المنظور المتكامل
الذي تبناه المؤلف، والذي سمح له بالتركيز علي الجوانب السياسية والاجتماعية
والحضارية والربط بينها بطريقة دينامية خلاقة. ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن
"العظم" كان موفقا في كل التحليلات التي قدمها بصدد الشخصية القومية
العربية، أو فيما يتعلق بالسمات الأساسية لبناء المجتمع العربي في مرحلة تطوره
الراهنة، أو في رسم خطوات التغيير الثوري التي ينبغي أن تأخذ مجراها إن أراد العرب
لأنفسهم أن يتجاوزوا الهزيمة، ولكن أهم ما يميز محاولته الجسورة، أسلوبه العلمي في
تناول الموضوع ووضوح المسلمات التي يصدر عنها، وحرصه على تحليل الواقع الحي
للمجتمع العربي، كما يفصح عن نفسه في المؤسسات السياسية والاجتماعية.
وقد يكون من أبرز التفسيرات التي حاول "العظم"
أن يصوغها لتحديد عوامل الهزيمة العربية عام 1967، إرجاعه الهزيمة إلى النوعية
الخاصة للشخصية القومية العربية.
ويرى "العظم" أن الشخصية العربية تميل إلى إزاحة المسئولية عن
النفس وإسقاطها على الغير، وقد تجلت هذه النزعة بكل وضوح – في نظره- بعد هزيمة
الخامس من يونيو- وتتمثل هذه النزعة في محاولة إرجاع الهزيمة العربية إلى عوامل
خارجية سعيا وراء البعد عن النفاذ إلى حقيقة الأوضاع العربية الداخلية الخاصة
بتنظيم المجتمع العربي، والتي أسهمت مباشرة في تحقيق الهزيمة.
غير أن "العظم" لا يقنع بصياغة هذا التعميم،
وإنما يحاول تعميقه على أساس ربطه "بعوامل أساسية تدخل في بنيان المجتمع
العربي التقليدي، ولا تنفصل عن خصائص الشخصية الاجتماعية التي تربيها البيئة
العربية المتوارثة في كل واحد منا وتنميها فيه".
وقد اعتمد "العظم" في دراسة خصائص الشخصية
الاجتماعية، ويوجه خاص فيما يتعلق بظاهرة المنطق التبريري العربي، علي دراسة
"حامد عمار" "الشخصية الفهلوية". وقد حرص "العظم"
على أن يشير إلى أن "الشخصية الفهلوية" ليست إلا تجريدًا ، لا وجود له
في الواقع الحى، إلا على صورة خصائص وأنماط سلوك وردود فعل ومشاعر وإحساسات يتصف
بها الأفراد في بيئات اجتماعية معينة وبنسب مختلفة قد تزيد وقد تنقص من فرد إلى آخر
وفقا للظروف والأوضاع.
إذا كان الأمر كذلك، فقد يكون من الأنسب أن نعتمد على دراسة
"حامد عمار" نفسها لنرى مفهومه عن الشخصية الفهلوية.
صاغ "حامد عمار" هذا المفهوم وحدد خصائصه في
إطار دراسة متكاملة جعل لها عنوانا "التربية والنمط الاجتماعي للشخصية".
وقد تحدث فيها عن "منهج الحضارة والشخصية"، وقرر أن "المعروف لدي
علماء الاجتماع أن للمجتمع محورين من الزمان والمكان تدور حولهما حياته وحضارته.
وحضارة المجتمع بالمعنى العام تشمل إلى جانب العناصر المادية مقومات اجتماعية
وسيكولوجية تحدد الطريقة التي تدار بها دفة الحضارة في مختلف المجالات، وأنواع
الدوافع والمحركات والقيم والمثل العليا، وعوامل الطمأنينة والقلق، وصور التكيف
والنشاز أو السواء والشذوذ. ويتكون من حصيلة البعدين الزماني والمكاني وعناصر
الحضارة المادية والاجتماعية والسيكولوجية نمط اجتماعي لشخصية الفرد. والاهتمام
بدارسة النمط الاجتماعي للشخصية من ألزم الجوانب لاستكمال وصف المجتمع وصفا حيويا
يعين المصلحين علي أحداث التغيير المنشود، وتقدير نتائجه. وبعد أن تحدث عن النمط
الاجتماعي للشخصية، وعرض لنماذج من التشكيل الاجتماعي للشخصية، حرص على وضع حدود
استخدام مصطلح النمط الاجتماعي للشخصية فتحدث عن "النمط والمخالف والاستمرار
والتغيير"، ليبين أن النمط الاجتماعي للشخصية يمثل السمات الغالبة في شخصيات
الأفراد، وليس معنى ذلك أنه لا يوجد بينهم من يشذ عن هذا التوقع أو يحيد عن المسالك
"الوسط" بالمعنى الإحصائي المعروف. ومن ناحية أخري تحدث عن إمكانية تغير
النمط الاجتماعي للشخصية ثم تساءل: "ما النمط الاجتماعي القائم لشخصية المصري
الذي تآلفت عوامل الزمان والمكان والأوضاع على تشكيله في هذا النمط؟ وما هذه
العوامل التي أدت إلى تشكيله على هذا النحو؟
اختار "حامد عمار" لفظ "الفهلوة"
للدلالة على هذا النمط، ومن هنا حديثه عن "الشخصية الفلهوية".