المركز العربي للبحوث والدراسات : مدخل الشبكات: مقاربة النماذج الثقافية لدراسة الجذر المعرفي للإرهاب (طباعة)
مدخل الشبكات: مقاربة النماذج الثقافية لدراسة الجذر المعرفي للإرهاب
آخر تحديث: الخميس 08/01/2015 02:23 م د. محمود عبد الله
مدخل الشبكات: مقاربة

حدثت تطورات في فهم أسباب الإرهاب الجهادي في السنوات العديدة الأخيرة، ومع ذلك فالجهود البحثية ضعيفة. وبصورة عامة، لا يقف من وراء الدعم الإرهابي والتجنيد عامل سببي واحد، لكنه يأتي من التفاعل بين الطموحات السياسية للجماعات الإرهابية، والأفراد العزّل، وتوظيف الأيديولوجية الجهادية، والدعم الاجتماعي الواسع للإرهاب. هذه العناصر الأخيرة تعتمد بشكل مفرط على جملة من أشكال الاتصال الحديث التي تستخدم للدعاية لرؤية عالم الجماعة الإرهابية لمجموعة من الأفكار العامة. ويمكن تحديد إستراتيجيات الاتصال للتنظيمات الإرهابية الجهادية في:

1.     دفع الأفراد العاديين للقيام بأعمال إرهابية تحقيقا لأهداف التنظيم؛

2.     استغلال مشاعر الغضب والإحساس بالإيذاء من أحداث سياسية؛

3.     الإقناع عبر استغلال النصوص الدينية المؤيدة للأيديولوجيات |لإرهابية.

ولقد ناقشنا هذه العناصر. فأولا، بالنسبة لسير الأفراد، تشير الدراسات إلى أن المنتحرين من الإرهابيين لا يعانون من أمراض نفسية معروفة، وهم متعلمون ومتيسّرو الحال مثل غيرهم من السكان. فالتعليم غير ذا صلة بدعم الإرهاب. وأخيرا، على الرغم من أن عامل القنوط من الأوضاع الاقتصادية قد يكون واحدا من المبررات المحتملة للإرهاب، إلا أننا لا نجده يفسره كل التفسير. والأهم من ذلك، أن الأفراد الذين هم عرضة للتجنيد لا يُدفعون دفعا للمشاركة في العمليات الانتحارية دون أن يكون لديهم شكل من أشكال الأيديولوجية لإرشادهم، علاوة على تنظيم عام يدعم أنشطتهم.

إن الموازنة بين الأدلة والشواهد يبين لنا أن الإرهابيين لديهم خلفيات دينية معقولة على الأقل. على سبيل المثال، أشارت مقابلات مع المجندين الإرهابيين في باكستان أن "لا أحد منهم كان من غير المتعلمين، ومن المعوزين، أو من السذج أو المكتئبين"، و" كانوا جميعا متدينين تدينًا عميقا". كانوا على إيمان بأن أفعالهم "يقرها دين الإسلام الموحى به من السماء". وعلاوة على ذلك، يبدو واضحا أيضا أن عملية التنشئة تتضمن دعم التدين، وأن الأحداث الخارجية يمكن لها أن تقود إلى مزيد من الاهتمام بالدين. على سبيل المثال، أقر مسلمو البوسنة بأنهم لا يعتبرون الانتماء الديني مكونا مهما من مكونات هويتهم، حتى اضطرهم العنف الموجه إليهم بقوة للوعي به. هذا لا يعني أن أصل الدوافع الإرهابية هو الدين، بل إن المسألة هي أن المعتقدات والقيم الدينية تشكل عنصرا مهما من عناصر وصف الجماعات الجهادية لعالمهم.

أما المكون الثاني لإستراتيجية عمل الجهاديين فهو استغلال الاستجابات العاطفية العامة للأحداث السياسية. ويبدو أن المنظمات الإرهابية متطورة جدا في استخدامها لوسائل الإعلام الحديثة، بما في ذلك استخدام الشبكة العالمية في نشر صور حية للمخالفات الأخلاقية التي يقع فيها الأمريكيون وغيرهم من الغربيين. علاوة على ذلك، فإن الأحداث المهينة والمشينة أخلاقيا لا يتم التعامل معها كأحداث منفصلة عن بعضها أو عشوائية، وإنما يتم تفسيرها داخل إطار عام هو القول بوجود إستراتيجية غربية موحدة لدعم "الحرب على الإسلام".

أما العنصر الثالث من الإستراتيجية الإرهابية فهو ضمان أن المجندين مقتنعون تمام الاقتناع بأنهم لن يخرجوا من التنظيم، ناهيك عن عدم الشعور بأي رحمة أو ندم عن أفعالهم. فلا رجعة، بالنسبة للإرهابي الانتحاري على وجه الخصوص، عن قرار أن يموت فداء قتل الآخرين. مثلا، يوصف الإرهابي الملقن باعتباره شخصا لا لبس لديه أو شك في وسيلة الانتحار أو الغاية منه. وتشمل هذه القناعة الدينية الاعتقاد الجوهري بأن الإرهابي يعرف ما يريده اللـه. مثل هذا الاعتقاد يبرر عدم التسامح الكامل مع الأفكار المغايرة، بل وعدم التسامح مع المؤمنين الآخرين الذين يختلفون مع الجماعة الإرهابية في قضايا محددة.

وتعتمد كل من هذه الإستراتيجيات على نقل الإرهابي لجوانب محددة من تصوراته الفكرية لتشكيل منظور مشترك للجمهور المستهدف. ولكي تكون مقاربته للجمهور ناجحة، لابد أن تتفق الأفكار التي يروّج لها مع جملة الأفكار السائد لدى من يخاطبهم من الناس.

إن واحدًا من تطبيقات تحليل النماذج الثقافية للإرهاب هو العمل على وضع خريطة بأنظمة المعاني الثقافية المشتركة من أجل فهم كيف ولماذا تبدو رسائل مختلفة يرسلها الإرهابي ذات فعالية في التأثير في توجهات الناس وكسب دعمهم. وقبل التطرق لثقافة الإرهاب، مع ذلك، علينا أولا تعريف الثقافة.

 
أولاً: مفهوم الثقافة

هناك اتجاه معتاد للحديث عن الثقافة كما لو كانت ذلك الشيء المادي الملموس. حيث يوصف الناس أحيانا بأنهم ينتمون لها، أو تعتبر مادة خارجية أو قوة تحيط بأعضائها وتوجه سلوكهم. ورغم صعوبة الحديث وفق هذه المصطلحات المجازية، لا يوفر ذلك أساسا مفيدا لتعريف الثقافة تعريفا مهنيا. وأي مقاربة بديلة ستعرفها كمجموعة من الأفكار المشتركة العامة (مثل المفاهيم، والقيم، والمعتقدات) التي تشكل نظام المعاني الرمزي المشتركة. وضمن هذا المفهوم، يحافظ السكان أو قطاع منهم على المعاني المتعادلة والمتكاملة. ولعل عبارة "المعاني المتعادلة والمتكاملة" تشي ضمنا بصعوبة أن يجمع شخصان داخل ثقافة ما على نفس الأفكار، ولكن المعاني المتماثلة يشترك فيها معظم أعضاء المجتمع. وتشير كلمة "متكاملة" إلى حقيقة أن تقاسم المعرفة المتخصصة مسألة تعتمد على وضعية الأفراد وأدوارهم داخل المجتمع (مثل أن يكون الواحد منهم إماما ومثقفا).

ولو وسعنا مجال المفهوم أكثر، لوجدنا من الشائع في علم المعرفة الاستفادة من مجاز "المرض" لفهم الأفكار الثقافية، حيث يصف الأفكار التي انتشرت على نطاق واسع بين السكان وتستمر لفترات طويلة من الزمن كالأمراض "المعدية". وغالبا ما يشار إلى هذا التصور النظري بالرؤية الوبائية للثقافة، استنادا إلى المعنى العام لعلم الأوبئة الذي يصف ويشرح توزيع أي ممتلكات بين السكان. ونقطة الانطلاق لتبني الرؤية الوبائية للثقافة، هي الفكرة المفردة باعتبارها وحدة ذرية. فالناس تستخدم عادة كلمة فكرة ليعنون بها ما يحتويه العقل، بما في ذلك المفاهيم التي تحدد كيف تمضي الأمور وكيف يجب أن تكون. مثلا، قد يؤمن الأفراد بأن الدول الغربية يجمعها الحرب السرية على الإسلام. وقد تحوي عقولهم أيضا على قيمة تقول بأن المثل الغربية المستوردة، مثل فصل الشؤون الدينية عن شئون الدولة، مثل سيئة ولذا يجب تجنبها. إذ غالبا ما يدرس علماء الاجتماع الأفكار كوحدات مستقلة، أو تجميعها معا في فئات فكرية للتبسيط. وهناك فرضية أساسيا في المقاربة الحالية هي أن المعرفة الثقافية تتكون من شبكات مشتركة من الأفكار، وأن هناك أهمية للنظر صراحة في الأفكار وترابطها. وغالبا ما يشار لشبكات الأفكار المترابطة في أسبابها باعتبارها نظريات شعبية أو نماذج فكرية. هذه الشبكات تشكل تفسيرات الناس لما يحدث، وتتسبب في تقرير الأحكام والقرارات التي تؤثر على سلوكهم.
يشير مصطلح الثقافة إلى النماذج الفكرية، وغير ذلك مما يحويه العقل، التي يتوافق حولها بعض الناس في فترة من الزمن

ومن هذا المنظور، يشير مصطلح الثقافة إلى النماذج الفكرية، وغير ذلك مما يحويه العقل، التي يتوافق حولها بعض الناس في فترة من الزمن. ويرتبط بهذا التعريف للثقافة سؤال حول كيف يمكن تحديد هؤلاء الناس المقصودين في التعريف. أمامنا مصطلح المجموعة الثقافية الذي يشير إلى السكان أو فئة منهم تشترك إلى حد كبير في مجموعة من الأفكار المترابطة. هذه المجموعة الثقافية تختلف عن المجموعات السكانية (أي المجموعات القائم تمييزها على أساس الجنسية والحالة التعليمية، وما إلى ذلك)، في أن المحددات الديموجرافية المرتبطة بمجموعة ثقافية معينة ستعتمد على مدى انتشار الأفكار الثقافية موضع الاهتمام. على سبيل المثال، التمييز الطائفي بين السنة والشيعة لا وجود له إذا كانت الفكرة الثقافية التي يعتمد عليها هي "لا إله إلا اللـه، محمد رسول اللـه." ولكن يختلف الحال إذا اعتمدنا في التمييز على المعتقدات المشتركة التي تشمل الاعتقاد في الإمام الثالث عشر. وبالتالي، فإن تمييز المجموعة الثقافية سيعتمد على المجال الثقافي، أي على نوع المعرفة وموضوعها.

 ثانياً- النموذج الثقافي للجهاد السني

إنه عند النظر في تصور المتطرف السني للعلاقات الاجتماعية والسياسية بين الإسلام والغرب، يتبين لنا اشتمال النموذج العقلي للعلاقات بين الطرفين المسلم والغربي لديه على مفاهيم فردية، وفهم العلاقات السببية بين المفاهيم، أي سوابق وعواقب الأنشطة السياسية ونتائجها. هذا النموذج العقلي يؤثر على توقعات الفرد لطريقة عقد العلاقات الاجتماعية والسياسية، ويوفر إطارا لاختيار السلوكيات والأهداف ضمن هذا السياق. ويعرض الشكل (1) صورة لشبكة تصف النموذج العقلي للمسلم السني للأحداث السياسية الحالية. وقد خرجنا بمجموعة الأفكار الممثلة في الشكل رقم(1) من مقالات تصف الحكايات الجهادية، ونقدمها هنا للتوضيح. يوضح الشكل رقم (1) عددا من الأفكار باستخدام الدوائر والخطوط والألوان. وتشمل هذه الأفكار مفاهيم بسيطة مثل "الغطرسة الغربية" و"كرامة المسلمين" معروضة في دوائر. وتشمل أيضا الأسباب، مثل أن قيام الخلافة الإسلامية الجديدة من شأنه أن يقلل من الهيمنة الغربية ويعيد المجد الإسلامي القديم. وترد هذه الأسباب في شكل خطوط مصحوبة بعلامتي موجب وسالب الدالتين على اتجاه العلة المسببة للاعتقاد والظن. وأخيرا، يصور الشكل رقم(1) أفكار حول الأوضاع المرغوبة أو القيمة باستخدام اللون، فضلا عن التدفق المنطقي عبر الأوضاع المرغوبة. فنشوء الخلافة الإسلامية أمر طيب. والحفاظ على كرمة المسلمين أمر قيم ومقدر بالمثل.

وفقا للنموذج، يعتبر الجهاد عملا إيجابيا ويجب أن يدعمه أنصار النموذج السني بسبب العواقب المتوقعة بالنسبة للمسلمين. ويقل الدعم الموجه للجهاد من فرص استمرار حرب الغرب على الإسلام، ويعزز كرامة جماعة المسلمين. وبطبيعة الحال فإن الإيمان بالمعتقدات التي وصفها هذا النموذج العقلي ستكون له عواقب قوية تحدد طريقة الفرد في التعامل مع المواقف ذات الصلة.

وكما يدل اسمها، تكمن النماذج العقلية في أمخاخ الأفراد. ومع ذلك، عندما يتواصل الناس مع بعضهم البعض بأي وسيلة من الوسائل، يطورون معا نماذج عقلية قد تكون في بدايتها متشابهة. وقد تنتشر على نطاق واسع بين الناس، لتصبح "نماذج ثقافية" بمعنى أن يتقاسمها نفر من الناس غير قليل. والنموذج الثقافي اصطلاح يشير إلى التمثيل الخارجي لمجموعة من النماذج العقلية المشتركة ثقافيا التي يقيمها الباحث ويضع معالمها. فهو يمثل جماع النماذج العقلية لمجموعة ثقافية معينة ومجال ثقافي محدد. وبالتالي، يمثل الشكل (1)، نموذجا من النماذج الثقافية في مجال العلاقات الاجتماعية والسياسية، بالنسبة للمسلمين السنة الذين يؤمنون بذات المعتقدات المتشابهة الواردة فيه.

يعتبر البعض الجهاد عملاً إيجابياً ويجب أن يدعمه أنصار النموذج السني بسبب العواقب المتوقعة بالنسبة للمسلمين

 عند النظر في الشكل رقم(1) كنموذج ثقافي، فإنه يعطينا وسيلة دقيقة للوقوف على عملية التحول والتغير الثقافي. على سبيل المثال، افترض أن احتمال العودة إلى الحضارة الإسلامية المجيدة هو النتيجة الأكثر بروزا التي أثرت إيجابيا على مفهوم دعم الجهاد. يتبين لك أن أي تغيير في سلسلة أسباب الاعتقاد، سينظر للجهاد وقتها باعتباره يقلل من فرص حدوث الإحياء الإسلامي المجيد بما يمكن أن يؤثر على تغير قيمة الأفعال التي تدعم الجهاد أو الموقف منها. وهذا يعني، أننا قد نلاحظ تغييرا في النموذج الثقافي العام الناتج عن هذا التحول في سلسلة أسباب الاعتقاد التي تربط بين الجهاد والمجد الإسلامي. مثل هذا التغيير في الموقف قد يؤدي بعد ذلك لإعادة تفسير النصوص الإسلامية ومراجعتها، أو على الأقل بروز رسائل بعينها. هذا المثال يبرز العلاقة المتبادلة بين أسباب الاعتقاد والقيم، بالإضافة إلى توضيح كيف تمثل النماذج الثقافية عملية التحول الثقافي.

 ثالثاً- القيم الثقافية، والنماذج والمجالات

وغالبا ما تصور المشتغلون بعلم النفس الثقافي الثقافة كقوائم عموميات المجال، والصفات المستقرة، مثل التوجهات القيمية الفرد ـ جماعية. ويهدف الباحثون إلى إيجاد مجموعة أساسية من الأبعاد من أجل وصف الثقافات التي يرونها هامة داخل مجموعة واسعة من المجالات. والفكرة هي طرح تنبؤات تحليلية بحتة حول المجموعات الثقافية التي يمكن تطبيقها على كثير من المشاكل. على سبيل المثال، قد يحاول باحثو الثقافة في هذا المنظور فهم الدعم الشعبي للعمليات الجهادية في دول الشرق الأوسط من خلال النظر في المستوى العام للتفاوت في القوة الذي يعيشه أعضاء تلك المجتمعات. فالفرضية الهامة التي تميز النماذج العقلية المشتركة ثقافيا، هي كونها مختصة بمجالات معينة. أي أن أنشطة مثل المشاركة في اجتماع حاشد لحزب اللـه هي أنشطة تدعمها نماذج عقلية معدة خصيصا لها. ومن ثم تشمل النماذج العقلية المشتركة ثقافيا على القيم والمعتقدات والمفاهيم التي تتجلى للأعضاء داخل ثقافة معينة في سياقات بعينها، وربما لا تعمم على حالات أخرى. وتنعكس القيم الثقافية المتعددة في النماذج العقلية للناس، وربما تكون بعض القيم أكثر أهمية من غيرها بحسب الوضع، وهي ظاهرة تعرف أحيانا باسم إعلاء القيمة. على سبيل المثال، يعلي الأميركيون من قيمة حرية التعبير. ومع ذلك، فإنهم يمكن أيضا أن يقوموا بتأييد الرقابة أو تقييد الوصول إلى المعلومات في أوقات معينة (على سبيل المثال، التقييد على المحتوى شديد العنف أو الجنس الصريح). وبالتالي، من الصعوبة بمكان، انطلاقا من منظور الأنماط الثقافية، فهم الاعتبارات الثقافية المهمة داخل سياق معين بالبدء بالقوائم الموجودة مسبقا للقيم الثقافية داخل المجال العام. وهذا يعني أن يبدأ التحليل الثقافي لمجال جديد بطريقة أكثر استكشافية، بالكشف عن القيم السائدة وما يرتبط بها من مفاهيم ثقافية مهمة ومعتقدات معللة.

إن النماذج العقلية هي بطبيعة الحال مجال له خصوصيته لأنها عبارة عن تفسيرات لمجريات العمليات المصطنعة والطبيعية. وعلاوة على ذلك، تتباين النماذج العقلية عبر الثقافات بطرق مقيدة فقط بالمجال نفسه وبأي مسلمات معرفية تؤسس لفهم مشترك بين الناس. ولقد ركزت معظم دراسات النماذج العقلية على المجال المادي، على الرغم من امتلاك الناس لنماذج عقلية ترتبط بمجالات نفسية واجتماعية، كما يتجلى في الشكل رقم(1). ويمثل النموذج الثقافي إجماع النماذج العقلية في إطار مجال معين.

وفي مقاربة من مقاربات النمط الثقافي يبدأ الباحث بتحديد الأحكام أو القرارات ذات الأولوية في الدراسة، مثل قرار الانخراط في الانتحار. وتنبع القرارات المختارة داخل سياقات محددة كما تحددها الحوادث أو السيناريوهات الحرجة. ولقد صاغها أعضاء المجموعة الثقافية، وذلك عادة بطريقة تثير الدهشة أو الحيرة لمن هم خارج المجموعة. وبمجرد تحديد القرارات الرئيسية، ينشئ الباحثون نماذج للأفكار الثقافية التي تؤثر مباشرة في تلك القرارات. هذه المقاربة، المسماة "بتحليل الشبكة الثقافية" تضمن أن جوانب الثقافة المدروسة ذات صلة بالقرارات ذات الأولوية.


رابعاً- تحليل الشبكات الثقافية

إن تحليل الشبكة الثقافية هو أسلوب لوصف الأفكار التي يتقاسمها أعضاء الجماعات الثقافية، وذات صلة بالقرارات المقررة داخل موقف محدد. وهو تحليل يميز بين ثلاثة أنواع من الأفكار: المفاهيم، والقيم، والمعتقدات حول العلاقات السببية. والنماذج الثقافية التي يصل إليها التحليل تستخدم مخططات شبكية لإبراز كيفية ارتباط كل الأفكار مع بعضها بعضًا. ويشمل كذلك التحليل أيضا على مجموعة كاملة من التقنيات اللازمة لبناء نموذج المخططات الثقافية. وهذا يتكون من أساليب محددة للوقوف على ثلاثة أنواع من الأفكار التي يتم الحصول عليها من الناس في المقابلات أو أدوات المسح واستخراج الأفكار من نصوص المقابلات أو غيرها من النصوص، وتحليل مدى شيوع الأفكار بين المجموعات الثقافية وداخلها، والمواءمة بين الأفكار المشتركة وتجميعها في خرائط كاملة. ويشترك تحليل الشبكة في جوانب منه مع مقاربات أخرى للتحليل الثقافي، وخاصة المقاربات المعرفية التي طورها علماء الأنثروبولوجيا. ومع ذلك، تطرح مقاربة تحليل الشبكة بعض الجوانب كمنهج كامل يميزها عن غيرها من مقاربات دراسة الثقافات. وتشمل هذه الجوانب التركيز على ضمان ملائمة النماذج الثقافية للقرارات الرئيسية من أجل ربطها مباشرة بالسلوك الفعلي، وتصوير ابن الثقافة أو المنظور الداخلي، ووضع نماذج لشبكات مترابطة من الأفكار بدلا من معالجة الأفكار ككيانات مستقلة، والتقييم المباشر للانتشار الفعلي لأفكار الشبكة بدلا من الاعتماد على مفاهيم غامضة حول المشاركة.

ويشمل تحليل الشبكة الثقافية على مرحلة استكشافية ومرحلة تأكيدية. وفي المرحلة الاستكشافية، يتم استخراج المفاهيم والنماذج العقلية من مصادر كيفية، مثل المقابلات ووسائل الإعلام المتاحة (الأخبار على شبكة الإنترنت، المدوّنات، والبريد الإلكتروني). والغرض من هذه المرحلة هو تطوير فهم أولي للمفاهيم والخصائص ذات الأهمية الثقافية داخل المجال. والهدف الثاني هو الحصول على رسوم بيانية أولية عن النماذج العقلية في أشكال تتناسب بشكل كامل مع بنيتها الفعلية. والتحليل الكيفي والعرض في هذه المرحلة يعطينا رؤى يمكن الوقوف عليها في صورة نماذج ثقافية أولية. وأحيانا ما يكون التحليل الكيفي هو كل ما هو مطلوب للتطبيق. كذلك توفر مرحلة الاستكشاف ثروة من المواد من أجل جمع البيانات المنظمة لاحقا في مرحلة التأكيد. أما في مرحلة التأكيد، فيستخدم الباحثون أدوات المقابلات المنتظمة، والتجارب الميدانية، والتحليلات الدلالية للمصادر الإليكترونية للحصول على بيانات منظمة قابلة للتحليل الإحصائي. كذلك يستخدم علماء أنثروبولوجيا المعرفة ودارسو السوق النماذج الإحصائية لتقدير أنماط الاتفاق واشتقاق الإحصاءات التي تصف توزيع المفاهيم والمعتقدات والقيم. وأخيرا، يقوم الباحثون بوضع الرسوم التوضيحية للنماذج الثقافية التي توضح المعلومات الإحصائية والكيفية الواردة في الأشكال البيانية. ولعل الرسوم البيانية قالب هام للنماذج الثقافية كما هو موضح في الشكل رقم(1). فالرسوم التوضيح تبين لنا إمكانية استخدام النماذج الثقافية في مجموعة متنوعة من السياقات.


شكل رقم (1)
شكل رقم (1)

خامساً- النماذج الثقافية وإدراك الإرهاب

إن بناء الأنماط الثقافية ورؤية الثقافة من منظور وقائي، يساعدنا كثيرا في فهم الوعي المشترك بين الإرهابيين وجمهورهم. فمن وجهة النظر الوبائية، تتكون الثقافة من أفكار معدية، أي أفكار تنتشر بشكل فاعل ضمن مجموعة من السكان.

هناك هدفان عامان لهذا النوع من البحوث، وهما الوقوف على التوزيع الحالي للنماذج العقلية داخل المجموعات الثقافية، وفهم آليات عمل الثقافة. 

إن بناء الأنماط الثقافية ورؤية الثقافة من منظور وقائي، يساعدنا كثيراً في فهم الوعي المشترك بين الإرهابيين وجمهورهم

 وتسعى برامج البحوث الثقافية الأساسية من هذا المنظور نحو فهم أسباب اعتبار بعض الأفكار أكثر عدوى من غيرها، وشرح أكثر الأفكار انتشارا وعمرا بين السكان. أما البحوث ذات الأهداف العملية فتركز على أمور مختلفة قليلا. فمن منظور صنع القرار، على سبيل المثال، ندرك أن العديد من الأفكار قد تكون منتشرة ولكنها غير منطقية عند الاستفادة منها في الأغراض العملية.

ومن ثم، فإن النهج الذي يركز على القرارات عند دراسته للثقافة والوعي يبدأ بالأحكام والقرارات المهمة التي أقرها أعضاء الجماعة الثقافية. مثلا، نحن نتصور قرار القبول برؤية الجماعة الإرهابية كعقدة مركزية ضمن أعلى مستوى في التسلسل الهرمي للنماذج الثقافية الإرهابية. إننا باستخدام تحليل الشبكة الثقافية يمكننا دراسة شبكات مترابطة من الأفكار لها أهميتها للقرارات المهمة للجماعة الثقافية من أجل الإجابة عن مجموعة من الأسئلة، مثل:

1.     ما توزيع النماذج العقلية المشتركة بين الجماعات الإرهابية ومؤيديهم المحتملين؟

2.     كيف تم بناء عملية التوزيع على هذا النحو؟

3.     إلى أي مدى هي مستقرة هذه التوزيعات؟

4.     ما الطرق التي تعتبر توزيعات تغيير مع مرور الوقت؟

5.     كيف الأفكار الفردية تؤثر بعضها بعضا في هذه الشبكات الاعتقاد الثقافية؟

إن النماذج الثقافية وآليات عملها الموصوفة داخل هذه الدراسات يمكنها أن تلقي الضوء على التفكير الرابض الاتصالات الوافدة من الجماعات الإرهابية. كما توفر لنا أساسا لبناء اتصالات مضادة فاعلة عبر تحديدها للرسائل ذات المغزى الثقافي. ولسوف تمكننا النماذج الثقافية من التنبؤ بشأن فاعلية رسالة بعينها عبر القيام بتقييم ما يطرحه الأفراد من استنتاجات غير مقصودة. وعلى وجه التحديد، يتبين لنا من معاينة الرسم البياني للنماذج الثقافية أن كل مفهوم ومعتقد مبرر له دوره المحتمل في صنع التغيير في المعتقدات أو المفاهيم. وبالتالي، يمكن لمثل هذه الرسوم البيانية أن نستعين بها في تحديد محتوى الاتصالات. فالرسائل يصنعها صناعها للتأثير في أضعف المفاهيم (أي المفاهيم التي ليس عليها إجماع كبير) التي تنتشر بدورها بفعل تأثيرات الوعي بها لتؤثر على المفاهيم الأخرى. هذه التأثيرات التي تنتشر عبر شبكة من المعتقدات الثقافية، تقوم بتغيير التصورات أو المفاهيم. ولعل بهذا النهج تركز الجهود الإعلامية على نقل المعلومات الأدق لإجراء تغيير في المفاهيم بطريقة لها معناها داخل وعي الجماعة الثقافية.

وإذا قام الباحثون بتحديد وعي الجماعة الثقافية عبر استخدام مفاهيمها ومعتقداتها المبررة، يمكن بذلك تحديد المفاهيم الخاطئة لاستهدافها بالرسائل. ولعل اتباع هذه الإستراتيجية يتطلب الخطوات التالية:

o       بناء نموذج ثقافي مرتبط بالفعل أو المعتقد المراد،

o       وضع تقديرات كمية للعوامل الواردة في النموذج،

o       محاكاة تأثيرات التغير الثقافي على قيم المفاهيم على مستوى التفاصيل،

o       التعرف على أكثر المفاهيم ضعفا التي يوجد عليها خلاف؛

o       تأليف رسائل للتأثير على أهمية تلك المفاهيم.

وباختصار، يمكن لنتائج الدراسات أن توفر مساهمة قيمة في تطوير نماذج دقيقة حول عملية صنع القرار الإرهابي، فضلا عن التوصيف المعرفي للمجموعات بناء على التزاماتها الإيديولوجية. والجانب بالغ الأهمية لتهيئة بيئة غير مواتية للأفكار المتطرفة هو البدء في التعرف على خطاب المنظمات الراعية الإرهاب، والتصدي لأيديولوجياتها من خلال التواصل. وبهذا نجد سبيلا للتخلص من أساطير الأعمال الإرهابية المستوحاة من الدين باعتبارها تصحيحا مجيدا للمخالفات الأخلاقية.