المركز العربي للبحوث والدراسات : من الانتفاضات الشعبية إلى تهديد كيانات الدولة: (2-2) حال الأمة العربية 2013-2014 (طباعة)
من الانتفاضات الشعبية إلى تهديد كيانات الدولة: (2-2) حال الأمة العربية 2013-2014
آخر تحديث: الخميس 25/12/2014 12:32 م د. عليّ الدين هلال
من الانتفاضات الشعبية

تناولنا في الحلقة الأولى كيف يمكن أن يمثل تحليل النظام العالمي المقدمة الطبيعية لتحليل أوضاع المنطقة العربية أو غيرها من مناطق العالم، وذلك لأن هذا النظام يعد السياق الخارجي الذي تمارس فيه الدول سياساتها الخارجية، ومن ثم يفرض عليها "قيودًا" ويوفر لها "فرصًا". بالإضافة إلى تأثير دول الجوار الجغرافي وإن كانت جميعها قد حققت مكاسب في علاقاتها مع الدول العربية. وعلى مستوى العلاقات العربية العربية أو بالأحرى النظام العربي، فإن تحليل هذه العلاقات يبين استمرار الأنماط الرئيسية لعمل مؤسسات النظام مع حدوث تغييرات في التحالفات بين دوله. وعلى مستوى تطور الأوضاع السياسية برزت أزمات المرحلة الانتقالية في دول الثورات والانتفاضات في مصر وتونس واليمن وليبيا.

هناك أخطار مُحدقة على وجود الدولة العربية وكيانها يمكن أن تفضي إلى التفكك والتقسيم.

خامسا: تطور الأوضاع الاقتصادية

وعلى مستوى أداء الاقتصادات العربية اتضح عجزها عن أداء مهام التنمية الاقتصادية والاجتماعية لأغلبية المواطنين، واستمرار قصور التكامل الاقتصادي العربي، والعجز عن تحسين شروط التعامل مع الاقتصاد العالمي. لقد كان من شأن الاستمرار في اتباع سياسات الليبرالية الجديدة أو ما يعرف بإجماع واشنطن، وإعطاء مقتضيات الالتحاق بالعولمة – بشكل فردي – الأولوية قبل تمكين الاقتصاد الوطني وتعزيز قدراته أدى إلى ازدياد دور المؤسسات المالية الدولية، والشركات متعدية الجنسية، وتراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، وازدياد درجة الانكشاف تجاه الخارج.

وفي ظل هذه الأوضاع أصبح الاقتصاد الوطني أسيرًا للمصالح الخارجية، وأكثر عرضة للتأثيرات السلبية للأزمات الاقتصادية والمالية العالمية، كما تفاقمت خطورة المشاكل الاقتصادية الداخلية مع ازدياد نسب البطالة والفقر وتراجع جودة التعليم مما هدد التماسك الاجتماعي في عدد من الدول.

اتضح أيضا بجلاء الطابع الريعي للاقتصادات العربية، فإن أهم ما يميز بنيتها الاقتصادية هو اعتمادها على القطاعات الريعية، مما يجعل الريع هو المصدر الرئيسي لتكوين الثروة. وكان لتلك السمة الريعية أثرها في هيكل تلك الاقتصادات من حيث أداء الناتج المحلى الإجمالي وتركيب هيكله القطاعي، وهيكل الإيرادات الحكومية. وأدى ذلك إلى النمو غير المتوازن للقطاعات، وتغييب العناصر المتعلقة بسياسات العدالة الاجتماعية، وأوجد ذلك البيئة المناسبة للانتفاضات والاحتجاجات والثورات التي شهدها عدد من البلاد العربية. ويترتب على ما تقدم ازدياد أهمية الربط بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وبناء اقتصاد وطني ينهض على مبادئ تأمين الحاجات الأساسية للمواطنين، واستدامة الجهود التنموية، والمشاركة الشعبية في إطار رؤية وطنية مستقلة لأولويات التنمية.

وشهد النصف الثاني من عام 2014 انخفاضا في أسعار النفط بسبب انخفاض الطلب العالمي من ناحية، وعدم اتخاذ قرار من الدول الرئيسية في منظمة الأوبك – وعلى رأسها السعودية- بخفض إنتاجها من ناحية ثانية، وازدياد إنتاج النفط وتصديره من دول غير أعضاء في الأوبك من ناحية ثالثة.

يتطلب مواجهة الإرهاب إستراتيجية متكاملة تأخذ في اعتبارها تجفيف المنابع المادية والفكرية، وتحقيق التنمية في المناطق الفقيرة والمهمشة ومعالجة المظالم والاختلالات التي تعانيها بعض الأ

سادسا: بؤر التوتر الساخنة

بالنسبة لبؤر التوتر الساخنة، فالسمة العامة هي استمرار البيئة التي أوجدت حالة التوتر والصراع، وأن الحلول المقترحة ذات طابع جزئي وهامشي ولا تخاطب جذور الأزمة.

 ففي حالة فلسطين، وصلت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي تمت بمبادرة ورعاية ومشاركة أمريكية، واستمرت خلال عامي 2013-2014 إلى طريق مسدود بسبب مراوغة إسرائيل وتعنّتها وطرحها لشروط جديدة كشرط الاعتراف بالهوية اليهودية للدولة، وشرط الموافقة على استمرار احتلالها لغور الأردن، إلى جانب رفضها التقليدي لحق العودة والانسحاب الكامل إلى حدود 1967. ومن ناحيتها، فإن السلطة الفلسطينية باتت عاجزة عن الاستمرار في المفاوضات، لأن ما هو مطروح عليها هو أدنى بكثير من الحد الأدنى للمطالب الفلسطينية. وبنفس المنطق، فإن تطورات المصالحة بين حركتي فتح وحماس خلال عام 2014، فشلت في تحقيق تقدم حقيقي، وذلك لأنه يترتب على المصالحة فقدان إحدى الحركتين لسيطرتها على السلطة وما يرتبط بها من مزايا وامتيازات مادية ومعنوية. وأدت حالة التخريب والدمار التي ترتبت على العدوان الإسرائيلي على غزة إلى إبرام مصالحة جديدة يكون من شأنها عودة السلطة الوطنية إلى ممارسة اختصاصاتها في قطاع غزة، وما زال تنفيذ هذا الاتفاق يواجه عقبات وتوترات.

وبالنسبة لسوريا، فقد شهد عام 2013 تحولًا نوعيًا في مسار الحرب كانت له بداياته في الشهور الأخيرة من عام 2012 واستمر طول عام 2014، فقد تبددت الأوهام بشأن هزيمة الجيش السوري وإسقاط النظام. ومع استعادة النظام لزمام المبادرة تغيّر التوازن العسكري في الميدان لصالح الجيش السوري وحلفائه، ولكن دون أمل في الفوز أو حسم المعركة لصالحه بسبب استمرار الإمدادات العسكرية والمادية للمعارضة.

في هذا السياق، جاءت أزمة استخدام السلاح الكيماوي، وقبول واشنطن بالحل الدبلوماسي الذي اقترحته موسكو وتراجعها عن صيحات التهديد بالحرب التي أطلقتها من قبل. وفي نفس السياق انعقد مؤتمر جنيف 2، والذي لم تكن لأي من واشنطن وموسكو مصلحة في نجاحه. لقد أدى هذا التوازن "الكارثي" إلى إدراك واشنطن أن الأزمة لن تحل في "الميدان" وإنما ستكون من خلال التفاوض، وزاد من تعقد الموقف التطورات التي أعقبت بروز دور داعش وإقامة الولايات المتحدة للتحالف الدولي ضد الإرهاب، مما وضع واشنطن ودمشق وطهران من الناحية الفعلية في نفس السلة، ومع نهاية 2014 كشفت روسيا عن جهودها الدبلوماسية مع كل أطراف الأزمة للوصول إلى حل تفاوضي والدعوة لمؤتمر في موسكو.

أما بالنسبة للعراق، فقد استمرت أزمة الشرعية التي تعرضت لها حكومة نوري المالكي بسبب فشلها في حل الملفات الرئيسية المتعلقة بكيان الدولة ونظام الحكم، مما أدى إلى استمرار العنف الطائفي، وإلى موجة المظاهرات في عدد من المحافظات، والتي سعت الحكومة إلى قمعها بالقوة المسلحة بدعوى "مكافحة الإرهاب".  

نبع المصدر الأول لأزمة الشرعية من الطبيعة الطائفية للوضع العراقي، فقد تراجعت الأحزاب المدنية المؤسسة على الاختلاف الإيديولوجي والسياسي لصالح الأحزاب الطائفية. وترتب على ذلك أن اتسمت العلاقات السياسية وأنماط التصويت الانتخابي بالطابع الطائفي.

وأدى فشل الحكومة في إكساب سياساتها صبغة وطنية إلى مزيد من الاحتقان الطائفي، وشعور قطاعات واسعة من السنة بالإقصاء السياسي والاجتماعي، وأدى ذلك إلى ظهور حركات احتجاجية استخدمت العنف، وأوجد ذلك البيئة الموضوعية لتغلغل التنظيمات الدينية المتطرفة، والتي أفصحت عن وجودها فيما قامت به داعش في يونيو 2014 وإعلان الدولة الإسلامية. ولا يبدو أن تشكيل وزارة عراقية جديدة في أعقاب الانتخابات البرلمانية أبريل 2014 قد غيّر من الطبيعة الطائفية لنظام الحكم أو معطيات العلاقات بين مكونات المجتمع العراقي.  

وإلي جانب هذه البؤر الثلاث، والتي استمرت لسنوات، فقد انضمت إليها كل من ليبيا واليمن. ففي الأولى انقسمت الدولة إلى حكومتين ومجلسين تشريعيين، كما توزعت القدرة العسكرية بين الجيش الوطني وعدد من الميليشيات العسكرية في سياق من الانفلات وعدم الأمن مما سمّاه بعض الباحثين بوضع "اللادولة". وفي الثانية ورغم النجاح في الوصول الحوار الوطني إلى اتفاق، فقد تمكن الحوثيون من هزيمة الجيش اليمني في أكثر من مناسبة ودخول العاصمة وفرض شروطهم السياسية.   

إلى ماذا يقودنا هذا العرض؟

عجز فكر النخب الحاكمة عن التكيف مع متطلبات الدولة الوطنية الحديثة، ومن ذلك فكرة خضوع الدولة – والحاكم - للقانون وخضوعها للمحاسبة.

يقودنا إلى عدد من التوجهات والاستنتاجات العامة:

1-     لقد أوضحت الأحداث عدم صحة الأطروحة الخاصة بتهميش المنطقة العربية من المنظور الأمريكي، وانتهاء الأهمية الإستراتيجية والاقتصادية للنفط والغاز العربيين في ضوء اكتشاف الولايات المتحدة لكميات ضخمة من النفط والغاز الصخري، وأن ذلك يؤدي إلى انتقال الاهتمام الأمريكي من منطقة الخليج العربي إلى آسيا. فمثل هذه الأطروحات هي أقرب إلى "أوراق الحرب النفسية" منها إلى التحليل العلمي، فالعلاقة بين مناطق العالم في السياسات الخارجية للدول الكبرى ليست "معادلة صفرية" إذا زادت في منطقة ما فإنها تنخفض بنفس الدرجة في منطقة أخرى. إضافة إلى ذلك أن هذه الأطروحة لا تأخذ في اعتبارها المصادر الأخرى للأهمية الإستراتيجية للمنطقة ولأهمية النفط لحلفاء الولايات المتحدة في أوربا وآسيا، كما أنها لا تأخذ في اعتبارها الحدود الاقتصادية والبيئية على إنتاج النفط والغاز الصخري.

2-     ظهور تغير في علاقة الولايات المتحدة بعدد من الدول العربية التي احتفظت معها بعلاقات إستراتيجية على مدى عقود فتوترت العلاقات السعودية الأمريكية بشأن الاتفاق النووي الإيراني، وأفصح المسئولون السعوديون صراحة عن ذلك، وكان للسعودية والإمارات والكويت والبحرين موقف تجاه ثورة 30 يونيو وسقوط حكم الإخوان مخالفًا لتوجه الولايات المتحدة، كما  أصاب هذا التوتر العلاقات المصرية الأمريكية، وسعت القاهرة للحصول على السلاح من روسيا، وفي هذا السياق اتسعت مجالات التعاون بين عديد من الدول العربية وكل من موسكو وبكين والهند وباكستان.

فهل تؤدي هذه التطورات إلى انتهاء مرحلة الهيمنة الأمريكية على تفاعلات الإقليم أم أنها "سحابة صيف" سوف تنقشع لصالح المصالح الإستراتيجية المشتركة بين هذه الدول؟ ولعل مؤشرات التعاون المتزايد بينها في مجال مكافحة الإرهاب والتغير التدريجي في موقف الولايات المتحدة تجاه مصر توحي باستمرار العلاقات الوثيقة العربية الأمريكية.   

3-     استمرار عملية الانتقال الديمقراطي المتعثر بعد مرور أربع سنوات على الاحتجاجات والانتفاضات التي اجتاحت المنطقة عام 2011، وانتقلت قطاعات من الرأي العام من التفاؤل المفرط إلى الإحباط والتشاؤم بسبب تفاقم المشاكل وتدهور الأوضاع.

باتت السلطة الفلسطينية عاجزة عن الاستمرار في المفاوضات لأن ما هو مطروح عليها هو أدنى بكثير من الحد الأدنى للمطالب الفلسطينية.

وتبين النظرة المقارنة لخبرات الانتقال الديمقراطي في العالم، وخاصة تلك التي تمت من خلال التعبئة الشعبية والاحتجاجات الاجتماعية إلى أن ما يحدث في البلاد العربية تكرر في دولٍ أخرى عديدة، فعملية الانتقال الديمقراطي ليست خطًا بيانيًا صاعدًا، وإنما عملية اجتماعية معقدة تشمل السلوك والممارسات والقيم والمؤسسات، وأنها تشهد عثرات وصعوبات. ويترتب على هذا الفهم أن حدوث المشاكل والعقبات هو ليس أمرًا مفاجئًا أو غير متوقع، وإنما العبرة بكيفية تعامل النخب السياسية – والمجتمع كله معها.

1-    "مذهبة" العلاقات السياسية وإكسابها طابعا طائفيا، فعلى مدى سنوات ونتيجة لازدياد دور قوى الإسلام السياسي في أغلب الدول العربية أخذت العملية السياسية والعلاقات بين مكونات المجتمع تأخذ طابعا مذهبيا وطائفيا سواء في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين أو بين المسلمين أنفسهم مما يمكن القول بأنه يتم تعريف "السياسة" و"الجماعة السياسية" و"الدولة ذاتها" على نحو جديد. وترتب على ذلك تنامي الحروب والصراعات المذهبية، وذلك على حساب مفهوم المواطنة والانتماء الوطني المشترك.

في ضوء ذلك، من المهم تحليل دلالات تراجع تيار الإسلام السياسي الذي تمثل في سقوط حكم الإخوان في مصر وفي فشل حزب النهضة في الحصول على أكثرية مقاعد البرلمان في تونس، إضافة إلى ازدياد تخوف ونفور قطاعات واسعة من الرأي العام العربي تجاه هذا التيار بسبب لجوء تنظيماته إلى العنف والاستخدام الوحشي له من جانب تنظيم داعش ونظائره، وتأثير ذلك على وضع تنظيمات الإسلام السياسي في البلاد العربية الأخرى سواء كانت في الحكم أم المعارضة، وقد دفع هذا التطور للبحث في مستقبل النسق المعرفي والإيديولوجي لتيار الإسلام السياسي في ضوء الخبرة العملية في مصر وتونس والمغرب واليمن وليبيا والعراق، إضافة إلى الأدوار التي تقوم بها أحزاب وقوى أخرى مماثلة في سوريا ولبنان.

5- احتدام الصراع حول مفهوم الدولة بما يرتبط بها من تعريف للجماعة السياسية ومصدر الشرعية بين ثلاثة مفاهيم نظرية: مفهوم الدولة الوطنية الحديثة أو الدولة الوستفالية المرتكزة على أركان الإقليم والشعب والحكومة والقائمة على المواطنة، ومفهوم دولة الخلافة التي ظلت هدفا أثيرا لحركات الإسلام السياسي وأبرزها حركة الإخوان المسلمين في مصر وتنظيمها الدولي وجوهرها الدولة الإمبراطورية متعددة الأعراق والإثنيات، ومفهوم الدولة الطائفية أو المذهبية التي تستند إلى تكوين إثني واحد بحيث يتم إعادة ترسيم حدود المنطقة على هذا الأساس. وهو صراع من الأرجح أن يستمر لسنوات قادمة.

فإلى أي مدى سوف تستمر هذه التوجهات في عام 2015؟     

  •  أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة