المركز العربي للبحوث والدراسات : تعزيز الديمقراطية: تونس بين خفوت الإسلاميين وصعود تيارات الحداثة! (طباعة)
تعزيز الديمقراطية: تونس بين خفوت الإسلاميين وصعود تيارات الحداثة!
آخر تحديث: الأربعاء 19/11/2014 10:58 ص كرم سعيد
تعزيز الديمقراطية:

شهدت تونس إجراء أول انتخابات تشريعية تنافسية في 26 أكتوبر لتليها انتخابات رئاسية في 23 نوفمبر على التوالي، وتعد هذه الانتخابات نهاية الانتقال الديمقراطي الذي بدأ عقب ثورة تونس في أكتوبر 2010، والإطاحة بحكم زين العابدين بن علي. وتعتبر هذه الانتخابات هي الأولى من نوعها بعد إقرار دستور تونس في مطلع العام الجاري من قبل المجلس الوطني التأسيسي.

ورسّخت الانتخابات التشريعية التونسية تجربة التعددية الحزبية، بعد تجربة امتدت لأكثر من نصف قرن مع حكم الحزب الواحد. ومنذ عام 1956، تاريخ استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي، وحتى عام 2011 لم تعرف تونس سوى نظام حكم الحزب الواحد، رغم الهزات السياسية، التي عرفتها في مراحل مختلفة. صحيح أن إدارة الحبيب بورقيبة التي قادت النضال ضد المستعمر الفرنسي، أعطت الأولوية لبناء دولة الاستقلال وتركيز الإدارة وتحديث المجتمع التونسي، وتحرير المرأة وتعميم برامج التعليم والصحة والنمو الاقتصادي إلا أن بورقيبة عزز من صلاحياته الواسعة كرئيس وزعيم للحزب الاشتراكي الدستوري وريث الحزب الدستوري الحر الذي قاد معركة التحرير ضد فرنسا.

وعلى الرغم من بروز تيارات معارضة، إسلاميين ويساريين بشكل خاص، لنظام الحزب الواحد فإنه لم يكن متاحا في ظل حكم بورقيبة، ذي الكاريزما القوية تركيز أسس الديمقراطية وتقديم منافسين له على الحكم، لذا منح تعديل دستوري عام 1976 الزعيم الراحل الرئاسة مدى الحياة.
ومع قدوم زين العابدين بن علي صدارة المشهد عبر انقلاب أبيض في نوفمبر 1987 على الرئيس بورقيبة، لاحت بارقة أمل للمعارضة بكل أطيافها، والتي وقعت على ميثاق وطني تقدم به حزب التجمع الدستوري الديمقراطي وريث الحزب الاشتراكي ، يكرس في مضمونه الديمقراطية والتعددية.

لكن لم يدم الأمر أكثر من ثلاث سنوات، لتدخل البلاد حقبة جديدة من نظام الحزب الواحد مع التجمع الدستوري الذي قاد حملة ملاحقة ضد المعارضة وقادة التيار الإسلامي. وكرست التعديلات المتلاحقة للدستور من صلاحيات الرئيس على حساب باقي المؤسسات، ما أضعف تماما الدور الرقابي للبرلمان وأدى إلى تفشي الفساد والمحسوبية على مدى 23 عاما من الحكم.

تأتي تونس في مقدمة الدول المصدرة للجهاديين إلى سوريا، بـ3 آلاف شخص، في حين تحتل السعودية المركز الثاني بـ2500، تليها المغرب 1500 شخص

أولا- الأهمية والاستثنائية

حملت الانتخابات التونسية أهمية خاصة لعدة اعتبارات أهمها، أنها الأولى من نوعها التي تجري عقب تمرير دستور الجمهورية الثانية في 13 يناير الماضي، وما تضمنه من تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لمصلحة البرلمان والحكومة في النظام السياسي الجديد.

كما أن هذا الاستحقاق أفرز البرلمان الذي سيشكل الحكومة التي ستتولى مقاليد السلطة طيلة السنوات الخمس المقبلة. وهذا يعني أن السلطة السياسية ستكون بأيدي الفائزين في هذا الاستحقاق، والأحزاب التونسية تدرك وتعي أهمية البرلمان جوهر السلطة ومقعد الرئاسة الوثير.

كما أنها الأولى التي تتزامن مع تصاعد وتيرة الإرهاب الذي يعتبر حديث العهد في تونس إذا ما قورن بالوضع في دول الجوار مصر وليبيا والجزائر. ووصل العنف الذروة مع نهاية يوليو الماضي مع استهداف المؤسسات الأمنية وعدد من المنشآت العسكرية في جبل الشعانبي. كما شهدت البلاد في 2 سبتمبر الماضي محاولة اغتيال النائب البرلماني محمد علي النصري المحسوب على حزب نداء تونس.

ومع سخونة الحملات الانتخابية تفاقمت ظاهرة العنف، حيث تعرض مرشحون من تيارات مختلفة إلى اعتداءات عنيفة، أو تهديدات لفظية، وكان بارزًا، هنا، تعرّض مقرّ حركة "النهضة" الإسلامية (الكتلة الأكبر في البرلمان) في محافظة زغوان قرب العاصمة التونسية إلى الحرق. كما تعرض أعضاء قائمة حزب "التحالف الديمقراطي" (وسط يسار)، في محافظة صفاقس، إلى اعتداء بـ«السواطير والسكاكين والهراوات»؛ ما تسبب في إصابات في صفوف أنصار الحزب، وجرح رئيس القائمة".وانزلقت تونس العام الماضي إلى أسوأ أزمة سياسية مع اغتيال جماعات دينية متشددة معارضين بارزين مثل الناشط السياسي شكري بلعيد والنائب عن حزب التيار الشعبي محمد البراهمي في 6 فبراير و 25 يوليو 2013 على التوالي.

وتقاتل تونس جماعات دينية متشددة أبرزها جماعة أنصار الشريعة التي تعلن ولاءها لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي. أضف إلى ذلك، إن تلك الانتخابات تشهد حضور قوى لجماعة "أنصار الشريعة" السلفية التي تعلن ولاءها لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وأيضا أبناء عمومتها في المشهد السياسي التونسي، لاسيما وأنها استفادت من حالة غض الطرف التي أنتهجتها حركة النهضة مع التيار السلفي في محاولتها لتشويه الصورة الذهنية للتيارات المدنية، كما أنها استغلت تسكينها إبان حكومة على العريض في المؤسسات والكيانات الدينية الرسمية لتوسيع قاعدتها الشعبية من جهة والإمساك ببعض مفاصل الدولة من جهة ثانية.

يشار إلى أن تونس تأتي في مقدمة الدول المصدرة للجهاديين إلى سوريا، بـ3 آلاف شخص، في حين تحتل السعودية المركز الثاني بـ2500، تليها المغرب 1500 شخص. وحافظت تونس، التي قادت انتفاضة الربيع العربي في المنطقة، على موقعها كأرض خصبة للجهاديين، حيث شق الآلاف منهم طريقهم إلى الأراضي السورية، ومنها إلى العراق عبر ليبيا وتركيا بالخصوص.

في المقابل تتزامن المعارك الانتخابية في تونس مع تراجع زخم حركة النهضة، بعد العجز عن تسكين أوجاع الأزمات التونسية في إطار حكومة الترويكا التي كانت هي العمود الفقري لها، ولعل هذا ما دفع الغنوشي في إطار التحايل على أزمة الحركة، وجذب الكتل التصويتية إلى تهدئة مخاوف مناهضيه، وكان بارزا، هنا، تصريحه لصحيفة الحياة في 24 أكتوبر الذي أعرب فيه عن اعتقاده أن «توافق الإسلاميين والعلمانيين سيحكم تونس» بعد الانتخابات، وشدد على رفض إقصاء أي طرف، قائلاً: «سنتعامل مع كل الأحزاب التي تعمل في إطار الدستور، ولا نميّز بين عهد حالي وعهد سابق، من دخل تحت جناح الدستور فهو مواطن تونسي له كامل الحقوق، بل هو دخل تحت جناح الثورة".

أصبح الجيش التونسي أحد أهم عوامل الاستقرار وحفظ التوازن بين المتناقضات الفكرية والسياسية

ثانيا- بيئة جديدة

شهدت البيئة الانتخابية في تونس إلى جانب عناصرها التقليدية بعض العناصر الجديدة التي ألقت بظلالها على الاقتراع الرئاسي والتشريعي، أولها حياد المؤسسة العسكرية عن التجاذبات السياسية التي تسود الشارع التونسي، واقتصار دورها على تأمين العملية الانتخابية. واستعادت المؤسسة العسكرية في تونس حضورها على الساحة السياسية عقب رحيل بن علي، باعتبارها الضامن للسلم الأهلي ولاستمرار وجود الدولة.

وأصبح الجيش أحد أهم عوامل الاستقرار وحفظ التوازن بين المتناقضات الفكرية والسياسية، وتأكد هذا الدور بإعلان وزير الدفاع التونسي غازي البحريني حياد المؤسسة العسكرية وعدم تدخلها في الشأن السياسي. وأضاف في تصريحات صحفيه له في 20 أغسطس الماضي “أن المؤسسة العسكرية في تونس لها قيم وتقاليد ثابتة تتمثل بالخصوص في عدم التدخل في الشأن السياسي". ولم يكن حياد الجيش التونسي هذا هو الأول من نوعه، فقد سبق له الإشراف على انتخابات أكتوبر 2011 بحياد ونزاهة.

أما العنصر الثاني فهو حدوث تضييق لافت للنظر على مؤسسات المجتمع المدني، حيث جمدت حكومة مهدي جمعة نشاط أكثر من 157 جمعية كإجراء تحفظي و"لدواع أمنية" قبل انطلاق العملية الانتخابية، للاشتباه في تلقيها تمويلات مشبوهة وبعلاقتها بالإرهابيين، كما تم غلق مؤسسات إعلامية بدعوى تحريضها على العنف والخطاب المتشدد والتكفيري.

وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش انتقدت خطوة الحكومة بتعليق نشاط الجمعيات لتعارضه مع مرسوم تبنته الحكومة الانتقالية في 2011 والذي يخوّل للسلطة القضائية وحدها حل أو تعليق نشاط الجمعيات. وجاء تجميد نشاط الجمعيات ضمن حزمة من القرارات والإجراءات التي اتخذتها الحكومة في إطار خلية أزمة شكلت عقب الهجوم الإرهابي الذي استهدف وحدات للجيش في جبل الشعانبي منتصف يوليو الماضي وأوقع 15 قتيلا من الجنود.

ويرتبط العنصر الثالث بالدور المعتبر للمنظمات الدولية إلى جوار الهيئات المدنية المحلية في مراقبة العملية الانتخابية. وكانت اللجنة العليا للانتخابات التونسية قد سمحت لنحو 140 من المنظمات المدنية بمراقبة الانتخابات، ومن أبرز هذه المنظمات ائتلاف أوفياء، وعتيد، ومراقبون، وصوتي، وأنا يقظ، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وشبكة مراقبون، التي يصل عدد أعضائها إلى ما يقرب من 4 آلاف مراقب موزعين على نحو 264 مقر اقتراع.

يشار إلى أن منظمات المجتمع المدني لعبت خلال انتخابات 2011 دورًا مهمًا في ملاحظة سير العملية الانتخابية، رغم أن تجربتها في هذا المجال كانت آنذاك محدودة. وقد أسهم عدد كبير من المراقبين الدوليين والتونسيين خلال انتخابات 2011، في توعية المواطنين بأهمية المشاركة في عملية الاقتراع وكيفيتها، والتصدي لمحاولات الغش والتلاعب بالأصوات، وتجاوز قانون الحملة الانتخابية واستخدام المال السياسي. وتميّز عمل هذه المنظّمات، التي أصبحت معروفة وطنيًّا ودوليًّا، بالجدية في تطبيق المشاريع الخاصة بمراقبة الانتخابات، وفي العمل الميداني والتواصل مع المواطنين، وفي التنسيق مع هيئة الانتخابات في إطار ما تخوله لها صلاحياتها. وإضافة إلى المنظمات المحلية، وصل عدد المراقبين الأجانب إلى نحو 600 مراقب من مختلف الدول والمنظمات العربية والغربية، لمراقبة سير الانتخابات التونسية، وتسجيل مدى عملها في إطار القوانين الدولية، ومن أهمها مركز كارتر، ووفد الجامعة العربية. كما شاركت الشبكة الدولية لحقوق الإنسان والتنمية لتكون المراقب الدولي في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في تونس. وتتكون بعثة الشبكة من 50 متخصصًا من مختلف الجنسيات، وهذا بالتعاون مع المنظمة غير الحكومية: "المعهد الدولي للسلام والعدالة وحقوق الإنسان"، والذي أرسلت 20 متخصصًا.

وشمل عمل المتخصصين مراقبة كل مراحل الانتخابات، بما في ذلك: التحضيرات، تسمية المرشحين، الأنشطة المؤيدة والمعارضة، إجراءات التصويت، عملية التنفيذ خلال الأيام الانتخابية، عملية إحصاء الأصوات، وأخيرًا إعلان النتائج الانتخابية.

أما الملمح الرابع فيرتبط بمشاركة عدد من ناشطي البيئة في الانتخابات التشريعية، أملا في إثارة الاهتمام بتدهور البيئة، في ظل انشغال الرأي العام بقضايا السياسة والأمن. وتعالت أصوات مجموعة من أصدقاء الطبيعة للمطالبة ببيئة سليمة عمادها انتشار المناطق الخضراء، ويعتقد الناشطون في مجال البيئة أن مفتاح التقدم البيئي في تونس يبقى رهينة باتخاذ قرارات جريئة غابت عن النخبة السياسية التونسية التي تركز في دعايتها على وعود محاربة البطالة والحد من غلاء الأسعار. في هذا السياق انطلقت الحملات الانتخابية التشريعية والرئاسية، فبينما ذهبت حركة النهضة إلى سيدي بوزيد مسقط رأس بوعزيزي مفجر الثورة التونسية لتدشين حملتها التشريعية، لجأت حركة نداء تونس الغريم التقليدي للنهضة إلى الاستعانة بنجوم الكرة على قوائمها الانتخابية، وحشدهم في الدعاية الانتخابية والتعبئة الجماهيرية.

كشفت الانتخابات عن قدرة التونسيين على قضم جماعات العنف التي انتشرت كالسرطان في الجسد التونسي

ثالثا- تونس والتطور الديمقراطي

ثمة مؤشرات على أن تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس هي التجربة الوحيدة التي حققت مقدارًا من النجاح بين بلدان الربيع العربي، أولها جمع الأركان الأساسية للانتقال الديمقراطي، وهي العدالة الانتقالية والانتخابات النزيهة وضمان الحريات الفردية والعامة ومنها حرية التعبير والتنظيم. أما الركن الأهم، فهو تمرير دستور توافقي مطلع يناير الماضي نص على أن "الإسلام دين الدولة، وأن تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون. وبموجب الدستور أيضا تم تحميل الدولة مسئولية إرساء ورعاية خطاب ديني وسطي يقوم على نبذ المغالاة، ويشجع على إعمال العقل في البحث عن مقاصد التشريع، ويستدعى اضطلاع السلطة بدورها في صناعة هذا الخطاب بدءا من المؤسسات التربوية وصولا إلى دور العبادة، وكانت النقطة الحاسمة في الدستور التونسي هي إلزام الدولة دستوريا بإبعاد الخطاب الديني عن التوظيف والدعاية الانتخابية.

ويرتبط المؤشر الثاني بارتفاع نسبة المشاركة التي تخطت حاجز الـ 60%، وتعكس نسبة المشاركة دون يرها ملامح التوجهات المقبلة. كونها تعكس درجة التشبع باليقين الديمقراطي كحل وحيد لتجاوز المعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

كما تؤكد معدلات المشاركة أن التونسيين باتوا يثقون بأن صندوق الاقتراع هو الفيصل في اختيار من يحكمهم. وما يميز التجربة التونسية أيضا أنها شذت عن قاعدة المقاطعة التي عرفتها استحقاقات انتخابية في دول أخرى، وهذا التطور في حد ذاته مؤشر إيجابي يبلور ما تراكم للتجربة التونسية من قناعات إيجابية مهما اختلفت صراعات استمالة الناخبين.

أما المؤشر الثالث فهو دور الانتخابات التشريعية في تحسين الصورة الذهنية لتونس، وكانت جهات المراقبة الدولية قد أثنت على سير العملية الانتخابية، خصوصا ارتفاع نسب المشاركة، فمن جهتها أبدت البعثة الأوربية ارتياحها  لحسن سير التصويت وكثافة المشاركة، مؤكدة في بيان لها أن فرق المراقبة المنتشرة في نحو 600 مكتب اقتراع لم تلحظ أي تجاوزات قانونية باستثناء  بعض المشاكل التقنية.

وفي أبرز ردود الفعل الدولية، هنأ البيت البيض التونسيين بالاقتراع، وفي بيان صادر عن إدارة أوباما قال " إن التونسيين بوضعهم بطاقات الاقتراع في الصناديق، إنما يواصلون إلهام الناس في منطقتهم وفي العالم كما فعلوا خلال ثورة 2011".  وقال وزير خارجية فرنسا فابيوس: إن التونسيين "قطعوا مرحلة تاريخية بتصويتهم لانتخاب برلمان، وقدموا الدليل على أن الديمقراطية ممكنة في العالم العربي".

خلف ما سبق فقد كشفت سياقات المشهد الانتخابي عن دور معتبر للمؤسسات الأمنية في تونس، التي اقتصر دورها على تأمين العملية الانتخابية بعيدا عن التجاذبات السياسية. واللافت للنظر أن المؤسستين الأمنية والعسكرية لعبتا دورا حاسما في إنجاح الاستحقاقات الانتخابية التي شهدتها البلاد منذ العام 2011، وفي أعقاب رحيل بن علي عن السلطة.

المؤشر الخامس على تقدم ملحوظ لعملية التطور الديمقراطي في تونس، هو ما كشف عنه الاقتراع التشريعي، من أن خيار الحداثة أصيل وراسخ في البيئة التونسية، فالقطاع المعتبر من التونسيين يدرك أن الدولة الحديثة التي تعتمد المفاهيم والآليات المقتبسة من التجارب الديمقراطية الناجحة هي أقصر الطرق للنجاح.

ويعود المؤشر السادس على احترام كل أطراف المعادلة السياسية ما أفرزته الانتخابات، ولعل إقرار النهضة بهزيمتها بل وتهنئتها حركة "نداء تونس" على لسان ممثلها زياد العذاري، هي سابقة أولى تحسب للنهضة، وتكشف ربما عن تطور ملحوظ لها في الفهم والالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية الحديثة. كما أن الإقرار بالهزيمة قد يعني في جوهره رغبة النهضة في التراجع والمراجعة للأفكار التي طرحتها على عجل بشأن الخلافة وتطبيق الشريعة وغيرها من القضايا الخلافية التي أدخلتها في صراعات قاسية مع قطاع واسع من المعارضة المدنية التونسية، ومن دون فائدة تذكر.

أما المؤشر السابع على دعم عملية التطور الديمقراطي في تونس، فتمثل في الحضور المكثف للمرأة التونسية ترشحا وتصويتا، ولم يكن حضور المرأة التونسية في المشهد التشريعي الراهن استثناء، فقد كان حضورها جليًا بشكل عام في الحراك السياسي الذي تعيشه تونس منذ اندلاع ثورتها في نهاية العام 2010.

الملمح الثامن والأهم، هو ما كشفت عنه الانتخابات من قدرة التونسيين على قضم جماعات العنف التي انتشرت كالسرطان في الجسد التونسي، وفي مقدمتها جماعة "أنصار الشريعة" التي هددت بإفشال الاستحقاق الانتخابي باعتباره يخالف قواعد وتعاليم النصوص السلامية والقواعد الفقهية بل هو استنساخ لتجارب الكفار في الغرب.

وعلى الرغم من محاولات بليْل أو من وراء ستار لتسخين الجبهة الداخلية عشية الاستحقاق التشريعي، من خلاف مهاجمة مقرات أمنية وتجمعات انتخابية فإن نجاح عناصر الجيش في تأمين المشهد الانتخابي أطاح برهانات العنف في عودة تونس خطوات للخلف.

على الضفة الأخرى من النهر فثمة معوقات قد تنال من مسيرة التطور الديمقراطي في تونس، في مقدمتها التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتبر المؤشر الأبرز في اختبار جدية وفاعلية التحول الديمقراطي. وتواجه تونس تحديات اقتصادية جمة وغير مسبوقة قد يتسبب الفشل في القفز والالتفاف عليها في أزمات سياسية ومجتمعية تكون تداعياتها سلبية على عملية التحول الديمقراطي.

فثمة معطيات تشير إلي تعاظم تحديات البطالة التي تصل إلى 15.2% ناهيك عن تراجع الاستثمارات، حيث غادرت ما  لا يقل عن 300 مؤسسة أجنبية البلاد منذ ثورة يناير 2011، فيما فقد الآلاف أرزاقهم بعد توقيف عدد معتبر من المنشآت الاقتصادية تحت ضغوطات الإفلاس، وهبوط الصادرات في مقابل زيادة الواردات، يضاف إلى ذلك هبوط عائدات السياحة وتراجع تدفق الاستثمارات الأجنبية.

كما شهدت البلاد تباطؤا في معدلات النمو الاقتصادي خلال النصف الأول من العام الجاري إلى 2.1%، وفي ذات الوقت رجح معهد الإحصاء الحكومي أن يتراوح عجز الميزانية العامة بنهاية العام الحالي بين 7.5% و8%.

في المقابل اتجهت الحكومات التونسية المتعاقبة منذ رحيل بن علي إلى الاقتراض من المؤسسات الدولية بعد أن استنفذت جزءا معتبرا من مدخراتها المالية. وأشارت آخر إحصاءات البنك المركزي التونسي بتاريخ 4 أكتوبر الماضي إلى بلوغ الاحتياطي النقدي إلى 6,9 مليار دولار، وهذا بفضل حصول تونس أخيرا على قسط بـ225 مليون دولار من صندوق النقد, وقرض من البنك الدولي بـ250 مليونا ناهيك عن توقيع اتفاق مع واشنطن في يوليو الماضي يقضى بحصول تونس على  500 مليون دولار بفوائد ميسرة من الإدارة الأمريكية، ولمدة سبع سنوات.

لذلك فإن دفع عملية التطور الديمقراطي في تونس والبناء الإيجابي على التشريعات التي أجريت مؤخراً يبقى مرهوناً بتقديم معالجات ناجحة للتدهور البالغ في الخدمات العامة والبدء بإصلاح مؤسسات الدولة وهياكلها الاقتصادية ولا ستصبح  زهور الديمقراطية التي تفتحت لتوها في تونس بلا رائحة وقد يصيبها العطب.

 

إن سوق الانتخابات التشريعية المعقدة في تونس جعلت الطريق شاقًا أمام نداء تونس، كما منعت حركة النهضة من السيطرة على مفاصل السلطة أو تشكيل حكومة منفردة.

رابعا- فرص الحكومة الائتلافية

على الرغم من تقدم نداء تونس وتراجع النهضة فإن المقاعد التي حصدتها الأولى تمنعها من تشكيل حكومة بمفردها، وبالتالي تبدو حاجتها ماسة إلى النهضة أو غيرها من القوى المدنية لضمان النصاب القانوني (109 مقاعد) لتشكيل الحكومة.

لذلك فإن الشيء المؤكد بعد انتهاء ماراثون الانتخابات التشريعية هو استمرار حركة النهضة في المشهد دون أن تكون في الصدارة هذه المرة، بالنظر توارى الأحزاب السلفية الداعم الرئيسي للنهضة عن المشهد الانتخابي، ونأي الحركة نفسها عن الجماعات السلفية المتشددة عقب سلسلة من أحداث العنف ناهيك عن أن شركاء النهضة في الترويكا الحاكمة ( المؤتمر من أجل الجمهورية- التكتل الديمقراطي) شهدت تصدعا من الداخل، وأصبحت الانشقاقات العنوان الأبرز في هذه الأحزاب، وتجلى ذلك في النتيجة الصفرية أو الهزلية التي خرجت بها في سباق التشريعيات.

على الضفة الأخرى من النهر فإن القوى المدنية، في مقدمتها نداء تونس  التي أعادت صياغة تكتيكاتها السياسية ومواقفها الخارجية، لتصبح الطرف الفاعل في الساحة التونسية، والمسئولة عن تشكيل الحكومة المقبلة، ولكن في إطار المشاركة مع آخرين.

خلاصة القول؛ إن سوق الانتخابات التشريعية المعقدة والمتشابكة في تونس هذه المرة جعلت الطريق شاقًا أمام نداء تونس، كما منعت حركة النهضة من السيطرة على مفاصل السلطة التشريعية أو تشكيل حكومة منفردة.

فإذا كانت الانتخابات الأخيرة قد كشفت عن زخم لا تخطئه عين لمصلحة القوى المدنية وعلى رأسها نداء تونس، فحركة النهضة ما زال بمقدورها التأثير على مجريات الأحداث بعد أن احتلت المركز الثاني في الموقعة التشريعية الأخيرة . وتأسيسًا على ذلك فأن خيار الحكومة الائتلافية ربما يكون ممكنًا من الناحية العملية بعد أن دخلت عجزت الأحزاب التونسية الرئيسية عن الفوز بأغلبية مطلقة.

 

المصادر

                     ·تهديدات إرهابية لعرقلة الانتخابات في تونس، الحياة، 31/8/2014.

                     ·عبدالرءوف المالكي، نحو معاقبة النهضة في الانتخابات التونسية، جريدة الحياة، 24/7/2014.

                     ·منذر ثابت، السباق نحو قرطاج، معهد العربية للدراسات، 17/8/2014

                     ·www.altahrir.com.

                     · د. آمال موسى، حظوظ حركة النهضة التونسية في الانتخابات التشريعية، 5 سبتمبر 2104، www.aawsat.com

                     · رشيد خشانة، تونس توقف تمدد الأصولية، الحياة، 28/10/2014.

                     · النهضة تقر بفوز "نداء تونس".. وتدعو إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، الشرق الأوسط، 28/10/2014.

                     · الهيئة العليا للانتخابات تثبت فوز نداء تونس، الشرق الأوسط، 31/10/2014.

                     · محمد الأشهب، التحديات الكبرى، الحياة، 27/10/2014.

                     · تونس/ نسبة المشاركة في الاقتراع بلغت 60% قبل ساعة من إغلاق مراكز الاقتراع، الشرق الأوسط، 27/10/2014.

                     · محمد الحداد، التجربة الانتقالية التونسية انتصار للحداثة، الحياة، 26/10/2014.

                     · كمال بن يونس، تحديات اقتصادية بالجملة تنتظر الفائزين في الانتخابات، الشرق الأوسط، 26/10/2014.

                     ·سمير السعداوي، انتخابات تونس وإعادة الاعتبار للعلمانيين، 26/10/2014، www.a;mayadeen.net.