المركز العربي للبحوث والدراسات : تحول مفاجئ: مستقبل العلاقات المصرية التركية (طباعة)
تحول مفاجئ: مستقبل العلاقات المصرية التركية
آخر تحديث: الأربعاء 24/09/2014 11:47 ص د. علي جلال معوض
تحول مفاجئ: مستقبل

تمهيد

شهدت تركيا خلال شهر أغسطس 2014 للمرة الأولى في تاريخها إجراء أول انتخابات رئاسية شارك فيها المواطنون الأتراك ـ داخل تركيا وخارجها ـ بشكل مباشر لاختيار  الرئيس الثاني عشر للجمهورية التركية منذ إعلانها عام 1923. وقد تنافس في هذه الانتخابات ثلاثة مرشحون هم: رجب طيب أردوغان (مرشح حزب العدالة والتنمية صاحب الأغلبية البرلمانية والمحلية في جميع الانتخابات التي أجريت منذ تأسيس الحزب عام 2001)، والبروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو الأمين العام السابق لمنظمة المؤتمر/التعاون الإسلامي (كمرشح توافقي لأحزاب المعارضة التركية وفي مقدمتها الشعب الجمهوري والحركة القومية)، وصلاح الدين ديميرتاش كمرشح للأحزاب الكردية بالأساس (وإن كان سعى لتقديم نفسه كمرشح لجميع الأتراك). وأسفرت الانتخابات عن فوز أردوغان من الجولة الأولى بنسبة 51.5% (مقابل 38.5% و9.5% تقريبا لمنافسيه على الترتيب) فيما اعتبره البعض "تغيرا إستاتيكيا" حيث جاءت النتائج والنسب في مجملها متفقة مع نتائج استطلاعات الرأي والتحليلات السابقة على الانتخابات، ومعبرة عن استمرار خريطة توزيع القوى السياسية الأساسية على الساحة التركية، وأولوية المحددات الاقتصادية والأيديولوجية وضعف المعارضة وآليات التلاعب السياسي والانتخابي كمحددات للنتائج(1).

وإذا كانت الانتخابات بشكل عام تظل في الأصل مناسبة داخلية في المقام الأول، إلا أن ذلك لم يحل دون أن يصاحب الانتخابات التركية كذلك الجدل حول تأثيراتها على مستقبل سياسة تركيا الخارجية وأدوارها وعلاقاتها الإقليمية والدولية، لا سيما على ضوء تصاعد الانتقادات الموجهة إلى هذه السياسة بالإخفاق في حماية المصالح التركية والتسبب في اتساع نطاق الأزمات الإقليمية منذ 2011 بشكل خاص، وهو ما زاد تسليط الضوء عليه كجزء من دلالات ترشيح أكمل الدين إحسان أوغلو باعتباره شخصية ذات خبرة دبلوماسية أظهرت قدرة على تحقيق التوافق وتطوير أداء منظمة التعاون الإسلامي رغم التباينات بين أعضائها، ومن ثم فهو يقدم نموذجا مغايرا لسياسات الحزب الحاكم في المرحلة الراهنة.

وزاد استحضار مصر بشكل خاص في هذا الصدد، بالنظر إلى مولد أكمل الدين بها ومعيشته بها حتى سن الثلاثين تقريبا، فضلا عن ارتباط أحد الانتقادات الأساسية الموجهة ضد مرشح المعارضة من قبل أردوغان وقيادات العدالة والتنمية بعدم اتخاذ أكمل الدين مواقف واضحة ضد تدخل المؤسسة العسكرية المصرية للإطاحة بالرئيس المصري الأسبق الدكتور محمد مرسي عقب المظاهرات المعارضة له في 30 يونيو عام 2013(2). وفي هذا الصدد ذهبت بعض التحليلات إلى أن فوز أكمل الدين بالرئاسة قد يعيد بعض التوازن للسياسات التركية داخليا وخارجيا، ويقلل من الطابع الحدي الاستقطابي المتزايد لها، مسترجعا بعضا من طابعها التوفيقي كوسيط النشط الذي وسم العقد الأول لحكم العدالة والتنمية أو حتى طابعها الحذر التقليدي الأقل تداخلية في شئون الشرق الأوسط لاسيما خارج دائرة دول الجوار المباشر لتركيا، وهو ما قد يفتح آفاقا لتقليل التوتر في العلاقات التركية المصرية بشكل خاص.

وتتبنى هذه الورقة رؤية مغايرة مفادها أن الانتخابات الرئاسية في حد ذاتها لم تكن لتشكل نقطة تحول مفصلية مباشرة في هذه العلاقات في كل السيناريوهات المعقولة ذات الصلة باحتمالات تأثير متغير القيادة التركية، طالما استمر الوجود القيادي لأردوغان سواء كرئيس للوزراء أو رئيس للجمهورية، وكذلك استمرار حزب العدالة والتنمية في السلطة كحزب للأغلبية، وهو ما كانت ترجحه السيناريوهات على المدى القصير والمتوسط، وتعزز ذلك بفوز أردوغان بالرئاسة.  ولا ينفي ذلك وجود مسارات ممكنة لانخفاض حدة التوتر في العلاقات حتى بعد فوز أردوغان وهو ما يكشفه تحليل المسارات البديلة للانتخابات التركية عامة، وبعد فوز أردوغان خاصة على النحو التالي:

إن نجاح أكمل الدين في أفضل التقديرات كان سيؤدي فقط إلى استمرار ذات الدور الذي كان يقوم به عبد اللـه جول من "تلطيف" حدة تصريحات أردوغان وتحركاته ضد الحكومة المصرية

أولا: المسارات البديلة للانتخابات التركية واتجاهات تطور العلاقات

 يمكن توضيح محدودية التأثير النسبي الذي كان متوقعا للانتخابات التركية في حد ذاتها  على سياسة تركيا الخارجية بشكل أكثر تفصيلية عبر تطبيق مبسط لمزيج من تقنيات التاريخ الافتراضي مع المسارات مستقبلية والتنبؤ الرجعي(3) من خلال استعراض المسارات الثلاثة الأساسية التي (كان) من شأن الانتخابات الرئاسية أن تغير بها من الطابع المتوتر الحالي للعلاقات الثنائية سواء باتجاه التهدئة أو المزيد من التصعيد، وذلك على النحو التالي:

 1-مسار تغير السياسة الخارجية التركية إيجابيا حال فوز أكمل الدين إحسان أوغلو

قد يرى البعض أن نقطة التحول الجوهرية الإيجابية المحتملة في العلاقات كانت ستحدث حال خسارة أردوغان أمام مرشح المعارضة  أكمل الدين إحسان أوغلو، استنادا إلى افتراض أن السمات الشخصية والنسق العقيدي لرئيس الجمهورية وقيادات النخب التركية تشكل عاملا أساسيا محددا للسياسة الخارجية التركية، وباعتبار أن التأزم في علاقات تركيا الإقليمية خلال الفترة الأخيرة ارتبط بشكل أساسي بالنمط القيادي الشعبوي لأردوغان ونسقه العقيدي وتوجهاته وانتماءاته الأيديولوجية التي دفعت تركيا إلى تصعيد انخراطها بشكل صراعي واستقطابي في تفاعلات المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وهو ما تجلى بشكل خاص في الدور التركي في الأزمتين السورية والمصرية، والدعم التركي الحدي لمواقف الإخوان المسلمين، على نحو رآه بعض المحللين  مؤثرا سلبا على قدرة تركيا على ممارسة أي أدوار فاعلة للوساطة لمعالجة الأزمات في المنطقة. ومن ثم فإن فوز أكمل الدين كان من شأنه وصول مرشح له توجهات أكثر دبلوماسية وأكثر إيجابية إزاء السعودية ومصر تحديدا، بما يخدم في استعادة مسار العلاقات التركية المصرية، فضلا عن توجيه ضربة قوية لطموحات أردوغان السياسية قد تهدد استمرار مستقبله السياسي كرئيس للوزراء.

إلا أن هذا التحليل يتجاهل الطابع القتالي لأردوغان وتمسكه بالاستمرار في السلطة في مواجهة الأزمات على نحو ما ظهر خلال التسعينيات مع أزمة حبسه وحل حزب الرفاه وتوجهه لاحقا مع عبد اللـه جول لتأسيس حزب العدالة والتنمية، وعلى نحو ما ظهر كذلك مع تعدد الأزمات التي واجهها الحزب وأردوغان شخصيا منذ وصوله للسلطة وكان آخرها مظاهرات "غيزي تقسيم" وفضيحة قضايا الفساد التي تفجرت في منتصف ونهاية عام 2013 على الترتيب. يضاف إلى ذلك أن استمرار أردوغان أصبح يمثل قضية وجودية بالنسبة له تتجاوز الطموح السياسي العادي على ضوء سعيه لاستمرار تحصين ذاته ضد الاتهامات بالفساد الموجهة ضده ولأفراد عائلته والتي لن تتردد أحزاب المعارضة في تصعيدها ضده حال خروجه من السلطة، مع انخفاض قدرة أردوغان على عرقلتها برلمانيا وقضائيا وشرطيا بل وإعلاميا على النحو المطبق حاليا.

يضاف إلى ذلك  الطابع الرمزي لسلطات رئيس الجمهورية في تركيا في حالة وجود رئيس وزراء قوى (لاسيما إذا لم يكن رئيس الوزراء له توجهات فكرية وحزبية مختلفة ويحوز حزبه الأغلبية البرلمانية)، وهو ما ظهر في حالة الرئيس السابق أحمد نجدت سيزر (رغم أن السياق المؤسسي كان أقل خضوعا في حينها لحزب العدالة والتنمية سواء من ناحية العلاقات المدنية العسكرية أو دور الإعلام ورجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني أو توحد أحزاب المعارضة الأساسية) وكذلك في حالة الرئيس السابق عبد اللـه جول (رغم خبراته السابقة كوزير للخارجية، إذ بدت قدرته على تبني مواقف مستقلة في مجال السياسة الخارجية محدودة واقرب إلى اختلاف في الصياغة دون المضمون عن أردوغان بحكم توزيع الصلاحيات والخلفية الحزبية والفكرية المشتركة). ومن ثم فإن نجاح أكمل الدين في أفضل التقديرات كان سيؤدي فقط إلى استمرار ذات الدور الذي كان يقوم به عبد اللـه جول من "تلطيف" حدة تصريحات أردوغان وتحركاته ضد الحكومة المصرية، مع إمكانية أن تؤدي أي زيادة في هذا الدور "التلطيفي" من قبل أكمل الدين إلى زيادة في حدة التصعيد اللفظي والرمزي من قبل أردوغان كرئيس للوزراء مع زيادة ترسيخ القضية المصرية كجزء من عمليات الاستقطاب الداخلي في تركيا (لاسيما مع مولد أوغلو ونشأته في مصر). وقد خلقت هذه الاتهامات ضغوطا على أكمل الدين أوغلو بالفعل  على نحو ما ظهر في اضطراره للدفاع عن نفسه خلال الحملة الانتخابية بأن  منصبه الرسمي كأمين عام كان يمنعه دون التعبير صراحة عن مواقفه الشخصية، مع انتقاده التطورات الحالية في النظام المصري بعد 30 يونيو 2013 باعتبارها تمثل خطوة إلى الوراء في مصر، وذلك دون إنكاره أخطاء ومشكلات أداء الإخوان خلال المرحلة الانتقالية. وكان من شأن هذه الضغوط –حتى حال وصوله فرضا للسلطة- أن تقلل من حماسه ومساعيه المباشرة لدفع العلاقات المصرية التركية إيجابيا نظرا لحساسية هذه القضية تحديدا بالنسبة له، وذلك رغم تأكيدات أكمل الدين بضرورة تبني تركيا سياسة خارجية واقعية أكثر انفتاحا على مختلف القيادات والنظم  (بما فيها مصر)  بما يحقق مصالح تركيا والقدرة على التأثير الإيجابي في مسارات التطورات داخل هذه الدول(4).

أخيرا، ودون إنكار إمكانية مساهمة تغيير أردوغان في فتح قنوات جديدة لإعادة تفعيل قنوات التواصل التركية بجميع الفاعلين في المنطقة، لاسيما مع حدوث نوع من الشخصنة للصراعات والعداءات وتوظيفها لقضايا وأغراض داخلي، إلا أن مثل هذا التحليل لا ينبغي أن يختزل مصادر التغير في الأدوار التركية في شخص أردوغان، إذ إن ثمة عوامل وفواعل أخرى متعددة لا تقل أهمية في هذا الصدد تتصل مثلا بتغيرات موازين القوى السياسية داخل مصر ومدى استقرارها، وتطورات القدرات والمواقف المصرية، فضلا عن مواقف القوى الدولية والإقليمية الرئيسية من تطورات الأوضاع في مصر وإقليميا. وعلى كل الأحوال، فإن نتائج الانتخابات الرئاسية -والمحلية قبلها- عززت من فرص استمرار حزب العدالة والتنمية وأردوغان في السلطة، والفوز في الانتخابات البرلمانية المقبلة سواء تم إجراؤها في موعدها عام 2015 أو تم التبكير بها دعما لشرعية الحزب في مواجهة احتمالات تصاعد حدة الصراع السياسي.

من المتوقع أن يتشابه نمط القيادة الأردوغاني مع الحقبة الأوزالية من حيث السعي للهيمنة على وحدات القرار الأخرى في مجال السياسة الخارجية

2 - مسار تصاعد حدة الصراع السياسي الداخلي التركي والانشغال عن القضية المصرية

يقوم هذا المسار على افتراضين أساسيين: الأول مؤداه عدم قدرة الانتخابات على التهدئة من حدة الصراع السياسي في حالات الاستقطاب الحاد، لاسيما إذا كانت الحملات الانتخابية ذاتها وممارسات الفائرين والخاسرين قائمة على تغذية هذه الاستقطابات لا تغذية النزعات التوافقية (هو ما ينطبق بشكل خاص على ممارسات أردوغان وعدد من قيادات حزبه)(5). أما الافتراض الثاني فيقوم على أن تصاعد الأزمات الداخلية يؤدي للانشغال عن قضايا السياسة الخارجية. ويطرح ذلك إمكانية تراجع حدة الطابع السلبي الراهن للعلاقات المصرية التركية حال تصاعد حدة الصراع السياسي في تركيا سواء نتيجة خسارة أردوغان للانتخابات الرئاسية أو فوزه بها بصعوبة في الجولة الثانية (وهو ما لم يحدث) أو تصاعد حدة الضغوط السياسية المعارضة في مواجهته حال توظيفه فوزه الانتخابي لاتخاذ المزيد من الإجراءات السلطوية لتعزيز سلطاته بالصدام مع مؤسسات الدولة والمجتمع (لاسيما المؤسسة القضائية والمحكمة الدستورية).

ورغم الوجاهة الجزئية لبعض افتراضات هذا المسار، فإن تفاقم الأزمات الداخلية قد يمارس تأثيرات أكثر تعقيدا على السياسة الخارجية. فإضافة إلى التوجه الانعزالي، قد يدفع تفاقم الأزمات إلى محاولة تقليل الضغوط الخارجية على النظام واستعادة أو بناء علاقات تعاونية (وهو ما يراه البعض مفسرا جزئيا لتحركات الحكومة التركية الفعلية في معالجة خلافاتها مع إسرائيل، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي فضلا عن بعض القوى الإقليمية الرئيسية). كما قد تدفع محاولات الهروب من الأزمات الداخلية إلى محاولات التصعيد ضد بعض الأطراف الخارجية، لاسيما عندما يعتقد الفاعل بانخفاض التكلفة السياسية لمثل هذا التصعيد وإمكانية تحييده عن القضايا الإقليمية الأخرى، وهو ما يطرحه البعض كتفسير للتصعيد في العلاقات التركية المصرية في ظل تداخل الأبعاد الداخلية والخارجية للخلاف، وتوظيف التصعيد الرمزي بين الطرفين لخدمة أغراض الانتخابات وتعزيز الشرعية الداخلية سواء في إطار خلق عدو خارجي (ظاهرة الالتفاف حول العلم)، أو التماهي والتحذير من احتمالات تكرر نفس المسار (بتدخل المؤسسة العسكرية والقوى المعارضة للإسلام السياسي ضد الحزب الحاكم)، أو إضفاء مصدر خارجي إضافي للشرعية القيمية  واللحمة الأيديولوجية بين أنصار الحزب.

ويمكن في هذا السياق تفسير إشارات أردوغان أثناء مشاركاته في الدعاية لحزبه في الانتخابات المحلية التي جرت في مارس 2014 إلى تطلعات أرواح الشهداء في مصر وأسماء البلتاجي لانتصار حزب العدالة والتنمية، والدلالات الرمزية لرفع أردوغان أصابعه بشعار رابعة العدوية سواء خلال جولات الدعاية الانتخابية سواء داخل تركيا أو خارجها وصولا إلى خطابه بعد الفوز بالانتخابات، وكذلك بدء أردوغان خطاب الفوز لحزبه عقب الانتخابات بتوجيه التحية إلى أنصار حزبه والمتطلعين لفوزه في دول أخرى، وذكر في مقدمتها "إخواننا في فلسطين ...وإخواننا في مصر ممن يناضلون من أجل الديمقراطية ويفهمون جيدا جدا نضالنا.."(6). وتكررت ذات الإشارات بصور أخرى خلال حملات الدعاية الانتخابية الرئاسية سواء من قبل أردوغان أو قيادات حزبه ووسائل الإعلام الموالية له، حيث تمثلت أحد الانتقادات الأساسية الموجهة لأكمل الدين إحسان أوغلو بعدم إبدائه ــ خلال توليه أمانة منظمة التعاون الإسلامى ــ مواقف واضحة ضد تدخل المؤسسة العسكرية في مصر للإطاحة بالرئيس محمد مرسى باعتباره انقلابا متكامل الأركان وفقا لرؤية الحكومة التركية، ونشأته وقضائه فترة كبيرة من عمره خارج تركيا حيث ولد وعاش في مصر حتى بلغ الثلاثين من عمره تقريبا. ومن ثم بدأ أنصار الحزب الحاكم في تصوير أكمل الدين باعتباره مرشح مصر في تركيا (وهو ما يسقط عليه كل أشكال الهجوم والتأطير السلبي التي تبرزها القيادات التركية ضد النظام المصري الحالي). فإحدى إشكاليات السياسة التركية لمصر خلال المرحلة الحالية ترتبط بقيام أردوغان وقيادات العدالة والتنمية بتحويلها جزئيا إلى قضية داخلية تركية –رغم عدم وجود جغرافي أو تأثير مصلحي مباشر والاختلافات المتعددة بين السياقات في البلدين- وذلك عبر تكريس حالة من التماهي بين تجربة الحرية والعدالة في مصر وتجارب أحزاب الإسلام السياسي التركية بما فيها حزب العدالة والتنمية، وهو ما يزيد استحضار عناصر الاختلاف مع والتخويف والتنفير من النظام المصري الحالي مع تصاعد الأزمات الداخلية التي يواجهها الحزب الحاكم في تركيا، ويزيد التخوف من احتمالات تنامي دعم العدالة والتنمية التركي لقوى الإسلام السياسي في مصر والمنطقة مع تعزيز الحزب وقياداته لقوتهم داخل تركيا.

3- مسار تصاعد التوترات المصرية التركية مع فوز أردوغان بالرئاسة

قد يرى البعض أن فوز أردوغان بالرئاسة يعزز احتمالات التصعيد التركي ضد مصر، ومن ثم حدة التوتر في الصراعات انطلاقا من إتاحة الفوز درجة أكبر من الشرعية الداخلية والصلاحيات لأردوغان تمكنه من التصعيد  السياسي خارجيا، سواء على ضوء على ضوء التغييرات الدستورية المحتملة لتعزيز صلاحيات الرئاسة (وهي تعديلات تتطلب موافقة ثلثي أعضاء البرلمان أو اللجوء إلى استفتاء شعبي عليها) أو حتى انطلاقا من الصلاحيات الحالية لرئيس الجمهورية في مجال السياسة الخارجية (مثل تعيين السفراء، ورئاسة جلسات مجلس الأمن القومي ودعوته للانعقاد، وتعيين رئيس الأركان واتخاذ القرارات بشأن استخدام القوات المسلحة التركية، غيرها)(7). ويطرح البعض في هذا الصدد مؤشرات أولية تدعمه مثل الإعلان عن تشكيل المجلس الثوري المصري بتركيا واستمرار الفعاليات المناهضة للنظام المصري في تركيا مع الإعلان عن إجراء محاكاة لفض اعتصامي رابعة والنهضة في تركيا ودعوة منظمات حقوق الإنسان العالمية لإحياء ذكرى المناسبة ونزع الشرعية عن النظام المصري القائم.

مثل هذا التحليل على وجاهته ينبغي ألا يصب في اتجاه تأكيد حدوث تحول نوعي بمزيد من التصعيد نتيجة انتخابات الرئاسة، إذ إن الفاعليات المشار إليها وغيرها شكلت نمطا مستمرا في تحركات حكومة أردوغان ضد النظام المصري الحالي منذ 30 يونيو 2013، وكان من المتوقع أن تشهد تصعيدا خلال الفترة الراهنة، بغض النظر عن الانتخابات الرئاسية التركية ونتائجها، نتيجة الدلالة الرمزية المهمة لشهر أغسطس 2014 بالنسبة لجماعة الإخوان وأنصار الرئيس المصري الأسبق باعتبارها الذكرى الأولى لفض اعتصامي رابعة والنهضة والتي يفترض ـ نظريا ـ أن توفر المناسبة الأكثر ملائمة للحشد والتعبئة داخليا وإقليميا ودوليا ضد النظام المصري والدفع باتجاه تصعيد حدة الصراع.

إن التغير الأساسي فيما يتعلق بالعلاقات المصرية التركية قد يكون في درجة حدة التصعيد الرمزي في مواجهة مصر

وثمة حاجة لإبداء درجات مماثلة من الحذر إزاء التقييمات الخاصة بزيادة صلاحيات أردوغان بعد وصوله للرئاسة. فالخبرة التاريخية التركية تقدم سجلا مختلطا لكيفية "ممارسة" الرئيس صلاحياته الدستورية، وبخاصة في مجال السياسة الخارجية: ففي الحقبة التالية مباشرة لوضع دستور 1982، ساد الاعتقاد بوقوع مؤسسة الرئاسة على هامش عملية صنع قرارات السياسة الخارجية بالنظر إلى الطبيعة البرلمانية أو شبه البرلمانية للنظام التركي، وعدم وضوح دور الرئيس في المجال الخارجي خلال فترة "كنعان إفرين" (نوفمبر 1982- نوفمبر 1989) كأول رئيس منتخب في ظل الدستور الجديد. في المقابل،  قدم عهد الرئيس أوزال (1989-1993)، لاسيما خلال السنتين الأوليين منه، نموذجا للدور النشط للرئيس في صنع قرارات السياسة الخارجية، وتوسعه في تفسير صلاحياته الدستورية، وتبنيه آليات مختلفة لمعالجة خلافاته مع الوحدات الأخرى لصنع القرار، مما جعله نموذجا "للقائد المهيمن" على عملية صنع السياسة الخارجية التركية. واستمر نشاط دور الرئيس في السياسة الخارجية، وإن كان بدرجة أقل، في فترة الرئيس سليمان ديمريل (1993-2000) استفادة من الخبرات السياسية السابقة لديمريل من جهة، والطابع الائتلافي للحكومات مع عدم تحقيق أي حزب منفردا الأغلبية اللازمة للحكم منفردا من جهة ثانية. ثم عاد هذا الدور إلى التراجع والانحسار مرة أخرى بشكل ملحوظ بعد تولي "سيزار" الرئاسة (مايو 2000-أغسطس 2007)، فيما عدا مناسبات محدودة حاول فيها "سيزار" الظهور كفاعل مؤثر في السياسة الخارجية التركية، مثل التحفظ على تحركات الحكومة للتعاون مع الولايات المتحدة في غزو العراق دون قرار من الأمم المتحدة عام 2003 والإصرار على زيارة سوريا رغم الضغوط الأمريكية في 2005 والتحفظ على المشاركة التركية في قوات حفظ السلام في لبنان عام 2006. وبدا دور عبد اللـه جول (2007-2014) كفاعل سياسي ذي توجهات مستقلة مؤثرة، محدودا نسبيا بالنظر إلى اتفاق معظم تحركاته في مضمونها سواء داخليا أو خارجيا مع توجهات رئيس الوزراء ووزير الخارجية والحزب الحاكم بدرجة كبيرة، وإن جاءت من الناحية الشكلية أكثر دبلوماسية وأقل ميلا للصدام المباشر. ويمكن تفسير هذا التباين بعدم اقتصار مصادر تأثير الرئيس وأبعادها على الصلاحيات الدستورية أو القانونية. إذ يستمد منصب الرئيس قوته من مصادر أخرى متعددة، مثل: طبيعة شخصية الرئيس وخبراته، وعلاقاته بوحدات صنع القرار الأخرى، خاصة علاقته بالحكومات المنتخبة ،ودرجة تماسك الأخيرة، ومدى وجود "فراغ دبلوماسي" أو مناطق لا تحظى باهتمام القيادات السياسية على النحو الكافي رغم وجود مبررات تستدعي ذلك(8).

وبالنظر إلى هذه العوامل، وتصريحات أردوغان نفسه بأنه سيكون رئيسا نشطا، فمن المتوقع أن يتشابه نمط القيادة الأردوغاني مع الحقبة الأوزالية من حيث السعي للهيمنة على وحدات القرار الأخرى في مجال السياسة الخارجية. لكن يظل الفارق المهم هو أن دلالات ذلك كانت أكبر في حالة أوزال بالنظر إلى توليه مسؤولية الرئاسة خلفا لكنعان إفرين كرئيس ذي التوجهات المختلفة فضلا عن تمثيله للمؤسسة العسكرية على مستوى قمة النظام السياسي، بينما يتولى أردوغان الرئاسة خلفا لعبد اللـه جول المنتمي لذات حزبه والمتأخر عنه في الترتيب القيادي فعليا على مدار تاريخهما السياسي المشترك منذ تأسيس الحزب، وعقب قرابة أحد عشر عاما من تولي رئاسة الوزراء زاد خلالها من إحكام سيطرته الشخصية وسيطرة حزبه وحكومته على مختلف مؤسسات الدولة. بهذا المعنى، فإن فوز أردوغان بالرئاسة لا يعني فعليا زيادة صلاحياته بدرجة كبيرة ـ في مجال السياسة الخارجية بشكل خاص ـ إذ إنه تمتع بالفعل بالقدر الأكبر من الصلاحيات كرئيس للوزراء وكرئيس للحزب صاحب الأغلبية في البرلمان. ومن ثم فإن التغير الأساسي فيما يتعلق بالعلاقات المصرية التركية ـ وبافتراض عدم حدوث تغير جوهري في بقية المتغيرات الأخرى داخل تركيا ومصر ومواقف القوى الإقليمية والدولية ـ قد يكون في درجة حدة التصعيد الرمزي في مواجهة مصر، لاسيما مع عدم وجود أطراف "مخففة" من حدة هذا التصعيد بعد انتهاء ولاية الرئيس عبد اللـه جول. وحتى على هذا المستوى، قد يلعب اختيار رئيس الوزراء التركي القادم دورا في استمرار سياسات التخفيف اللفظي من حدة الممارسات التركية، لاسيما حال تولي عبد اللـه جول أو أحمد داود أوغلو للمنصب، وهو ما تم حسمه بالفعل ـ ولو مؤقتا ـ لصالح داود أوغلو في 21 أغسطس، وإن كانت بعض مبررات تفضيل أردوغان لداود حملت دلالات استقطابية حدية داخليا (باعتباره دعمًا بقوة جهود مكافحة الدولة الموازية في إشارة إلى حركة فتح اللـه كولن وخصوم أردوغان في الداخل) مع توقع البعض امتداد هذه النزعة الاستقطابية خارجيا في صورة تأكيد استمرار السياسات الخارجية التركية الحالية(9).

وتبقى الإشارة إلى أن فوز أردوغان يساهم جزئيا بشكل غير مباشر في استمرار مصادر توتر العلاقات المصرية التركية بالنظر إلى أن هذا الفوز دعم يقدم دلالات رمزية مهمة عند الأحزاب والقوى الإسلامية الأخرى في المنطقة، لاسيما تلك التي تعاني من ضغوط وأزمات تهدد وجودها واستمرارها مثل الإخوان المسلمين في مصر، ويفسر ذلك ترحيب هذه القوى والأشخاص المحسوبين عليها بنتائج الانتخابات التركية والمبالغة في دلالاتها باعتبارها ضربة قوية ضد مصالح أطراف إقليمية ودولية، وأن هذا الفوز سبب "حالة من الهلع" للنظام المصري الحالي وغيرها من الصياغات؛ فالفوز يحمل دلالات مهمة لهذه الحركات سواء من زاوية استمرار الدعم التركي لقضاياها أو استمرار صمود ما ينظر إليه كأحد النماذج الناجحة لأداء هذه الحركات في الحكم(10).

- تظل احتمالات زيادة الصراع السياسي داخل تركيا قائمة سواء على ضوء تصعيد أردوغان وحزبه ضد القضاء ومؤسسات الدولة الأخرى، أو تنامي الخلافات داخل حزب العدالة والتنمية.

ثانيا: إمكانات انخفاض حدة التوتر في العلاقات بعد فوز أردوغان

خلاصة ما سبق هو ترجيح استمرار عناصر التوتر في السياسة التركية إزاء مصر بعد فوز أردوغان بالرئاسة، وعدم توقع حدوث تغير نوعي أو كمي كبير في مستوى التوترات وذلك بفرض استقرار بقية المتغيرات الأخرى. لا يمنع ذلك وجود طرح بمسار نظري قوامه إمكانية تحسن العلاقات حال حدوث تغير ذاتي في النسق العقيدي لأردوغان نفسه وتوجهاته نحو مزيد من الاعتدال نتيجة إدراكه إخفاقات الأدوار التركية التدخلية الحدية فضلا عن تأثيرات توليه منصب الرئاسة وما يتطلبه من درجة أعلى من الصيغ الجامعة والتوفيقية(11). لكن يعيب هذا المسار عدم اتفاقه مع وسياسات الإنكار التي تبناها أردوغان في مواجهة منتقدي السياسات الخارجية لحكومته لاسيما إزاء مصر وسوريا والعراق والدفاع عنها باعتبارها سياسة إنسانية تنطلق من مبادئ أخلاقية قيمية، وتصب في اتجاه تحقيق المصالح التركية بما يجعل احتمالات مراجعة هذه السياسات محدودة، وكذلك تعارضه مع النمط الذي أدار به أردوغان حملته الانتخابية، حيث استثارة الانقسامات داخل تركيا وخارجها على قضايا الهوية وغيرها، فضلا عن تأكيداته استمرار علاقته بحزب العدالة والتنمية حتى بعد توليه الرئاسة وتخليه رسميا عن قيادة الحزب(12).

وقد ظهرت أولى المؤشرات المؤكدة لذلك في تفضيل أردوغان اختيار داود أوغلو لرئاسة الوزراء بعده وذلك رغم الانتقادات الحادة الموجهة للأخيرة بالمسئولية عن زيادة توتر علاقات تركيا بدول جوارها وتصاعد التهديدات ضدها خلال المرحلة الأخيرة نتيجة تبني سياسات حدية تقوم على المجازفة والتدخل في شئون الدول الأخرى خارجيا. وبغض النظر عن مدى دقة هذه الاتهامات، وتجاهلها جزئيا تعقيدات الواقع الإقليمي المحيط بتركيا، فإن الإصرار على رئيس وزراء مثير للجدل داخليا وخارجيا يعد في حد ذاته رسالة سلبية من منظور إمكانية تبني أردوغان ممارسات أكثر توفيقية خلال المرحلة القادمة، لاسيما مع استهلال داود أوغلو إعلان ترشحه لرئاسة الوزراء بالتأكيد على استمرار "المسيرة المقدسة" داخليا وخارجيا التي يمثل حزب العدالة والتنمية إحدى حلقاتها  للدفاع عن العدالة والحق رغم كل محاولات إيقاف هذه المسيرة، بما يشي بمزيد من التكريس لعقلية ثنائية حدية في الخطاب السياسي التركي، ويزيد تعقيد احتمالات التوفيق والتقارب بين حزب العدالة والتنمية ومختلف خصومه أو أعدائه كما يراهم(13). يضاف إلى ذلك ما تثيره بعض التحليلات حول السمات النفسية والشخصية لداود أوغلو كأكاديمي وسياسي من عدم الميل للتراجع أو الاعتذار عن الأخطاء بشكل علني، والسعي لإبراز النجاحات وتضخيمها، وهي ذات السمات التي يتصف بها أردوغان كصاحب نمط سياسي شعبوي بما يصعب عمليات المراجعة الذاتية ما لم يشهد الواقع تغيرات جذرية تفرض هذه المراجعة(14).

تبقى مع ذلك إمكانيات لتحسن العلاقات المصرية التركية أو انخفاض حدة التوتر فيها كنتاج لمسارين أساسيين:

المسار الأول داخلي تركي صراعي يركز على إمكانية تحول فوز أردوغان بالرئاسة إلى القمة التي يبدأ بعدها منحنى التراجع. فرغم فوز أردوغان من الجولة الأولى بنسبة تفوق التي حققها حزبه في الانتخابات المحلية الأخيرة، وتوظيف ذلك ضمنيا أحيانا كمؤشر على نجاح الحزب في الحفاظ على شرعيته وتعزيزها، فإنه يمكن تقديم قراءة أخرى مفادها تراجع شعبية أردوغان بصورة حادة نسبيا خلال السنة الأخيرة؛ إذ كانت استطلاعات الرأي تظهر دوما تفوق جاذبيته ومعدلات تأييده داخل تركيا على 65% خلال السنوات السابقة، وهي المعدلات التي أخذت في الهبوط منذ انتفاضات جيزي/تقسيم منتصف 2013 وفضائح الفساد في نهاية ذات العام، حتى وصلت إلى ما يقرب من الخمسين بالمائة(15)، وهي النسبة التي حصل عليها أردوغان فعليا في الانتخابات تعبيرا عن زيادة حدة الاستقطاب داخل تركيا. ومن ثم تظل احتمالات زيادة الصراع السياسي داخل تركيا قائمة سواء على ضوء تصعيد أردوغان وحزبه ضد القضاء ومؤسسات الدولة الأخرى في إطار نزعات التسلطية أو التغطية على قضايا الفساد، أو تنامي الخلافات داخل حزب العدالة والتنمية على خلفية الخلاف الكامن بين القيادات القديمة أو التأسيسية للحزب (لاسيما أن نسبة كبيرة منها سيتعذر عليها الترشح للبرلمان مجددا عام 2015 نتيجة القيد الزمني الوارد في لوائح الحزب) من جهة وأردوغان والعناصر الجديدة المتركزة حوله من جهة ثانية، وهو ما تشير بعض التحليلات إلى بوادره باختيار داود أوغلو بدلا من عبد اللـه جول فضلا عن تصريحات الأخير وبولينت أرينج بضرورة احترام دور الجناح المحافظ المؤسس للحزب(16). يضاف إلى ذلك احتمالات تصاعد بعض المشكلات المؤججة لحدة الصراع السياسي على خلفية استحقاقات القضية الكردية، أو تزايد المخاطر والسلبيات المرتبطة بالتهديدات الإرهابية في جوار تركيا وداخلها، فضلا عن التأثيرات الاقتصادية السلبية للصراع في الجوار على مسارات التجارة التركية وارتفاع الأعباء الاقتصادية والاجتماعية لتزايد أعداد اللاجئين إلى تركيا الذين تجاوزوا حاجز المليون من سوريا وحدها. يرتبط بذلك إمكانات نجاح المعارضة في زيادة التنسيق بينها وتوظيف هذه الصراعات المحتملة في استراتيجياتها خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة، فضلا عن فتح المجال أمام تحركات خارج نطاق الانتخابات للإطاحة الحكومة التركية وأردوغان عبر سياسات الشارع أو المؤسسات القضائية أو حتى تدخل المؤسسة العسكرية التركية(17). لكن هذه السيناريوهات ـ رغم أهميتها ـ تبقى منخفضة الاحتمال نسبيا فضلا عن إمكانية دفعها العلاقات المصرية التركية إلى مزيد من التوتر نتيجة تعقد العلاقة بين الأزمات الداخلية والسياسة الخارجية على النحو السالف بيانه. ومع ذلك تبقى أهمية هذه الأزمات الكامنة في تأثيرها سلبا على نشاط وفاعلية ومصداقية الأدوار الإقليمية التركية في معالجة مختلف الملفات، بما فيها الأدوار التداخلية التركية في مصر، دون أن يمنع ذلك استمرار التحركات الرمزية ضد مصر (وإن بزخم أقل)  لانخفاض تكلفتها السياسية من المنظور التركي وقابليتها للتوظيف لأغراض داخلية.

ويقوم المسار الثاني المتصور لتحسن العلاقات على متغيرات خارجية لا تتصل بالتطورات الداخلية التركية بقدر ما يرتبط بزيادة نجاح النظام المصري الحالي في ترسيخ شرعيته الداخلية والدولية عبر تحقيق إنجازات اقتصادية وأمنية واضحة، والتوصل إلى صياغات سياسية تسمح بتخفيف حدة الصراع الداخلي القائم ونزع الطابع الأمني والوجودي عنه تدريجيا لدى مختلف أطراف الصراع، فضلا عن تفعيل القوى الإقليمية الداعمة لمصر خلال هذه المرحلة ـ لاسيما السعودية والإمارات ـ ضغوطها على تركيا لتقليل حدة الخطاب السياسي التركي إزاء مصر وتحركاتها التداخلية المؤججة للخلافات المصرية، فضلا عن تغير المواقف الأمريكية والأوربية إلى دعم النظام المصري الحالي بشكل واضح انطلاقا من وجود مصالح محورية مشتركة أو زيادة الضغوط الدولية ضد جماعات الإسلام السياسي بشكل عام مع تنامي المخاطر والتهديدات المرتبطة بالجماعات الإسلامية العنيفة. وثمة مسار فرعي خارجي آخر قوامه تزايد تصاعد حدة التهديدات الإقليمية من الجوار التركي بما يجبرها على إجراء مراجعة شاملة لسياساتها الخارجية، لاسيما مع التأثيرات السلبية للتطورات في الجوار التركي في تعقيد مسارات التجارة التركية إلى منطقة الشرق الأوسط، مع الانغلاق الكلي أو الجزئي للمسارات السورية (بتأثير الصراع وقطع العلاقات مع النظام السوري) والعراقية (بتأثير تمدد داعش والخلافات مع الحكومة العراقية المركزية) وزيادة التعقيدات على المسارين المصري (نتيجة النمط التدخلي التركي الداعم للإخوان) والإسرائيلي (بتأثير تباطؤ وتيرة جهود المصالحة التركية الإسرائيلية على خلفية الاعتداء على غزة منذ يوليو 2014). جميع هذه العوامل سيكون من شأنها رفع تكاليف النمط التدخلي التركي في الشئون المصرية على المدى المتوسط، ومن ثم زيادة فرص مراجعة الأدوار والسياسات الحالية، واحتمال التحسن التدريجي في العلاقات الثنائية.

خاتمة

تكشف جميع المسارات السابقة على ضرورة عدم المبالغة في تقدير حجم الدلالات الخارجية أو حتى الداخلية لنتائج الانتخابات الرئاسية التركية في حد ذاتها، إذ تبقى رغم أهميتها مؤشرا مرحليا جزئيا ضمن منظومة أكثر تعقيدا من الأحداث والتطورات في السياقين التركي والإقليمي والدولي. ولا يعني ذلك بحال التقليل من أهمية الدور التركي التدخلي (بأبعاده السياسية الدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية والأمنية) وخطورته بالنسبة للمصالح المصرية (وإن كان الدور التركي بدوره يظل جزءا من منظومة أكثر تعقيدا)، لكنه ينبه فقط على ضرورة عدم المبالغة في دلالات الانتخابات الرئاسية التركية وفوز أردوغان بها كنقطة تحول مفصلية في مسار العلاقات الحالي، إذ إن ثمة متغيرات أخرى حاكمة أكثر أهمية داخليا ـ في مصر وتركيا ـ وإقليميا ودوليا.

المقال المنشور جزء من دراسة نشرت في العدد العشر من مجلة أفاق سياسية


[1]- وحدة تحليل السياسات في المركز العربي، "تقدير موقف: هل يؤشر فوز أردوغان إلى بدء عهد جمهورية تركية جديدة؟" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أغسطس 2014)، ص ص 1-2؛ أحمد موسى بدوي، "تغيير استاتيكي: قراءة في نتائج الانتخابات الرئاسية التركية"، موقع المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات، 12 أغسطس 2014، http://www.acrseg.org/10101

2- “CHP leader turns to Google to slam Erdogan’s presidential candidacy as disgraceful”,Hurriyet Daily News,1/7/2014.

3 - تقوم تقنية التاريخ البديل أو الافتراضي hypothetical/counterfactual history  على تحليل تصوري لتطور الوقائع التاريخية حال تغير بعض الفواعل أو العوامل وذلك سعيا لزيادة فهم ما حدث فعليا، ومدى محورية تأثيرات هذه الفواعل والعوامل في مسارات الأحداث. بينما تقوم تقنية  التنبؤ بالمسارات المستقبلية  forecasting بوضع بدايات ونقاط انطلاق لتطور الأحداث على ضوء فواعل وعوامل معينة، بخلاف  تقنية التنبؤ الرجعي backcasting حيث يتم وضع التصور المستقبلي أو المآل أولا، ثم الرجوع للحاضر بحثا عن المتغيرات الداعمة له والمسارات الممكنة لتحقيقه. للمزيد انظر: وليد عبد الحي، مناهج الدراسات المستقبلية وتطبيقاتها في العالم العربي (أبو ظبي: مركز الأهرام للدراسات والبحوث الاستراتيجية،2007) صص41-43؛ Niall Ferguson,”Virtual history: Towards a chaotic theory of the past”,In:Nial Ferguson(ed.),Virtual history (New York:Basic Books,1999)pp1-89.

4- Maher Zenalov, “What can Ekmeleddin Ihsanoglu bring to Turkey’s Presidency?”, Al Arabia News-World, 8/7/2014.

5 - حول الانتخابات كمصدر للتوتر وعدم الاستقرار السياسي، انظر: Jack Snyder, From voting to violence: Democratization and nationalist conflict (New York:W.W.Norton,2000)

6- “FULL TEXT: Turkish PM Erdoğan's post-election 'balcony speech’”, Hurriyet Daily News,1/4/2014; Semih Idiz,”Erdogan plays Egypt card in ballot box victory”, Al-Monitor, 1/4/2014; Pinar Tremblay,” Morsi an issue in Turkey’s presidential campaign”,Al-Monitor, 18/6/2014

7 -حول صلاحيات واختصاصات رئيس الجمهورية، انظر المادة 104 من الدستور التركي: 

 Constitution of The Republic of Turkey, Turkeyi Buyuk Millet Meclisi [Turkish Grand National Assembly] website, pp.51-52, http://global.tbmm.gov.tr/docs/constitution_en.pdf

كذلك يمارس الرئيس سلطات "الحرب" بالنيابة عن البرلمان في حالة غياب الأخير، مع تعرض الدولة لاعتداء عسكري، إذ يملك إصدار قرارات تعبئة القوات المسلحة التركية، و نشرها في الخارج، أو السماح للقوات الأجنبية بالانتشار على الأراضي التركية(المادة 92 من الدستور).

8- F.Tayfur and K.Goymen, “Decision making in Turkish foreign policy: The Caspian oil pipeline issue”, Middle Eastern Studies,38(2),2002,pp.101-110; Mustafa Oguz,Conflict within the Turkish foreign policy decision making mechanism: the cases of the gulf war and the USA military intervention in Iraq, Master Thesis ,Sabanji university, 2005,pp28-31; 134-138.

9- Tulin Daloglu, “Davutoglu slated to be next prime minister of Turkey”, AlMonitor,,21/8/2014.

10-جمال سلطان، "ماذا يعني فوز الطيب أردوغان"، المصريون، 11/8/2014؛ Egypt's Brotherhood,Tunisia congratulate Turkey’s Erdogan”, Anadolu Agency11/8/2014.

11- Mustafa Akyol, “Toward more or less polarization”,Hurriyet,27/8/2014.

12- Blaise Miszatel,Svante Cornell and Halil Karaveli, “Foreign policy reset unlikely under president Erdogan”, The American Interest,7/8/2014; “AKP chair not leadership is changing hands”, Hurriyet Daily News, 27/8/2014.

13-Tulin Daloglu, Op.cit; Cengiz Candar, “Is Davutoglu facing a mission impossible?”, Al-Monitor, 22/8/2014, Mustafa Akyol, “The AKP’s manifest destiny”, Al-Monitor,22/8/2014.

14-  Omer Taspinar, “Ambivalence about davutoglu”, Today’s Zaman,24/8/2014.

15- "Tyrks divided on Erdogan and the Country's direction”, Pew Research Global Attitude Project,30/7/2014.

16 -Fehim Tastekin, "Provocations in Turkey as Kurdish peace process gets serious",Al-Monitor,21/8/2014; Rasim Ozan Kutahyali, “Will there be a shodown between Gul and Erdogan?”, Al-Monitor,21/8/2014; Murat Yetkin, “Does Davutoglu represent the 2nd generation of AK Parti in Turkey?”, Hurriyet Daily News,23/8/2014.

17 -حول أهم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه أردوغان بعد الفوز بالرئاسة، انظر:

Madalina Sisu Vicari and Liridon Lika, Presidential elections in Turkey: A wide range of intricate challenges ahead of next president (Liège :Center for International Relations Study-Faculte de Droit, deScience Politique et de Criminologie, Universite de Liege, August 2014)pp5-19.