حرب إيران في الداخل... فوز رئيسي ومأزق انتصار المتشددين في إيران
يكشف
الكاتب عن أن الجمهورية إيران الإسلامية تعتبر دولة منقسمة على نفسها، منذ تأسيسها
في عام 1979، وهو الأمر الذى تم تحديده من خلال التوتر بين رئيس الجمهورية وقائد
الحكومة المنتخبة، والمرشد الأعلى الذي
يقود مؤسسات الدولة الموازية التي تجسد المثل الإسلامية الثورية لإيران الحديثة. وفي
هذا السياق، شغل المرشد الأعلى الحالي، علي خامنئي، منصب الرئيس من عام 1981 إلى
عام 1989، واشتبك خلال فترة رئاسته، مع المرشد الأعلى روح الله الخميني حول مسائل
السياسة والموظفين والأيديولوجيا في ذلك الوقت، وتم تعيين خامنئي مرشدًا أعلى
واستمر في القتال مع سلسلة طويلة من الرؤساء الأكثر اعتدالًا منه.
فلم يكن
الرؤساء الإيرانيون الجدد متطرفين بمعايير المؤسسة السياسية في البلاد، لكن على
الرغم من اختلاف وجهات نظرهم العالمية وقواعدهم الاجتماعية، فقد اتبعوا جميعًا
سياسات داخلية وخارجية وصفتها الدولة الموازية بأنها علمانية وليبرالية ومضادة
للثورة ومدمرة. وما تم ملاحظته في كل حالة، هو تحرك من قبل خامنئي وفيلق الحرس الثوري
الإسلامي، الذي يخضع مباشرة للمرشد الأعلى، بقوة ووحشية في بعض الأحيان لاحتواء الحكومة
المنتخبة والسيطرة عليها، مما أدى إلى استنزاف البيروقراطية الحكومية وشلها.
ولكن بانتخاب
الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي، يمكن القول أن هذا الصراع ربما يكون قد حسم أخيراً لصالح الدولة الموازية.
إبراهيم رئيسي؛ حيث يعد رئيسي هو موظف مخلص للنظام الثيوقراطي الإيراني. فلعقود من
الزمان، شغل رئيسي منصب المدعي العام والقاضي غير البارز، بما في ذلك عامين كرئيس
للسلطة القضائية الإيرانية. وخلال مسيرته المهنية، اشتهر رئيسي لدوره المزعوم في
الإعدام بإجراءات موجزة لآلاف السجناء السياسيين وأعضاء الجماعات المسلحة اليسارية
في أواخر الثمانينيات. فمن الواضح أن حرصه على القضاء على أي تهديد محتمل للدولة الموازية
جعله محبوبًا لدى خامنئي، وليس هناك شك في أنه كرئيس، ستكون إحدى أولوياته إحكام
سيطرة المرشد الأعلى على الوكالات الإدارية للحكومة المنتخبة.
كما
سيتطلب السياق الذي تولى فيه رئيسي الرئاسة استراحة من الماضي؛ حيث عانت إيران من
الفقر بسبب القيود المفروضة عليها كنتيجة للعقوبات
الأمريكية ووباء COVID-19. ، الأمر الذى أدى لتضاؤل التطلعات
الديمقراطية للطبقة الوسطى، ومن هنا، فوسط كل هذه الاضطرابات، ستحتاج إيران قريبًا
إلى زعيم جديد، وهى مرحلة انتقالية من المقرر أن يلعب فيها الرئيس الجديد دورًا
حاسمًا، والتي من المحتمل أن تؤدي إلى صعوده إلى يصبح المرشد الأعلى القادم.
ومن هنا،
تعد هذه التغييرات بإطلاق حقبة جديدة في تاريخ الجمهورية الإسلامية، بما يمكن
للاضطراب الناجم عن نظام منقسم أن يفسح المجال لإيران إلى أن تصبح أكثر تماسكًا وحزماً
في محاولة تشكيل المنطقة على صورتها الخاصة. فمع تلاشي العديد من القادة والحركات
التي ساهمت في تشكيل السياسة الإيرانية على مدى العقود الثلاثة الماضية، أصبح لدى
فصيل من القادة المتشدديين الفرصة لإعادة تشكيل السياسة والمجتمع في إيران بطرق من
شأنها توسيع سيطرة الحرس الثوري الإيراني على اقتصاد البلاد، مما يؤدي إلى مزيد من
التضاؤل، فيما يتعلق بالحريات السياسية،
ومع ذلك يُظهر تسامحًا محدودًا بشأن القضايا الدينية والاجتماعية.
ويمكن
لهذه التغييرات أيضًا أن تعيد تشكيل علاقة إيران بالعالم، وخاصة مع الولايات
المتحدة؛ فعبر دعم الحرس الثوري الإيراني الواثق من نفسه وعدم الخوف من التخريب
المحلي، لن تتردد الحكومة الجديدة في مواجهة التهديدات الوجودية المتصورة من
الولايات المتحدة الأمريكية، فرغم التنازلات التى من الممكن أن تقدمها إيران في
إطار خطة العمل المشتركة الشاملة، للتخفيف من حدة الأزمات الاقتصادية والبيئية
المتصاعدة في الداخل، إلا أن فريق السياسة الخارجية القادم سوف يتجاهل تطلعات
الرؤساء السابقين للتقارب مع الغرب ، وبدلاً من ذلك سيواصلون تحالفاتهم الاستراتيجية
مع الصين وروسيا، فضلاً عن أن تركيز إيران الأساسي سينصب على الشرق الأوسط، من
خلال بعض الاتفاقيات الأمنية والتجارية الثنائية
مع جيرانها وتضاعف جهودها في تعزيز "محور المقاومة" ، وهي شبكة مترامية
الأطراف من الوكلاء في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغيرها.
أولاً- تصاعد الصراع
ظهر
النظام السياسي الذي بشر به الخميني إلى الوجود في عام 1979 في ظل حالة من الصراع؛
حيث كان إنهاء حكم الشاه الذى إيران منذ عام 1941 ، مسألة سلمية نسبيًا ، لكن
الصراع بين الإسلاميين وخصومهم كان داميًا وطويل الأمد؛ حيث حارب أتباع الخميني
رجال الدين التقليديين والقوميين والماركسيين من أجل السلطة، وعزز استيلاء الطلاب
الموالين للخميني على السفارة الأمريكية في 1979 قبضة الإسلاميين على السلطة، كما
فعلت الحرب التي خاضتها إيران ضد جارتها العراق في الفترة من 1980 إلى 1988، والتي
ساعدت في توسيع قوتها شبه العسكرية، الحرس الثوري الإيراني ، كقوة موازنة الجيش
الإيراني الذي دربته الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الشاه.
وأسست
القوى الإسلامية المنتصرة مؤسسات موازية أطلقوا عليها بشكل جماعي اسم
"نظام" ، والذي تم تصميمه لتحييد أي تهديدات من الدولة العلمانية، فسرعان
ما وجدت إيران نفسها ممزقة بسبب خطوط الصدع، بين المرشد الأعلى والرئيس، وبين قادة
الحرس الثوري الإيراني والجيش، وبين الفقهاء الدينيين في مجلس صيانة الدستور
(الهيئة التي تتمتع بحق النقض على التشريع) وأعضاء البرلمان. تعمقت الانقسامات بعد
وفاة الخميني، عندما تولى الجناح الإسلامي للإسلاميين السلطة وأطاح بإخوانه
اليساريين، وسرعان ما انقسم الفصيل الحاكم بين الدولة الموازية والحكومة برئاسة
المرشد الأعلى الجديد والرئيس على التوالي.
فالمرشد
الأعلى هو من الناحية الدستورية صانع القرار النهائي في إيران، لكن يمكن للرئيس
والبيروقراطية الحكومية أحيانًا استغلال المشاعر الشعبية للتغلب عليه؛ حيث سلطت
الانتخابات الضوء على قضايا الاستقطاب مثل الحقوق المدنية وقواعد الزى الإلزامية
والفساد والعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، مما حفز الحركات الاجتماعية
والاحتجاجات التي لا تستطيع الدولة الموازية تجاهلها، وأدت الانتخابات الرئاسية
لعام 1997 إلى ولادة حركة إصلاحية هائلة غيرت تطلعاتها "الديمقراطية
الدينية" حتى معجم المرشد الأعلى.
ولكن
بالنسبة لرؤساء إيران الجدد، فإن الجهود المبذولة لاستغلال المشاعر الشعبية للضغط
من أجل الإصلاح تنتهي عادةً بالإحباط والفشل؛ حيث وعد جميع الرجال الذين عملوا كرؤوساء
لإيران خلال العقود الثلاثة الماضية -
أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد وحسن روحاني - برسم مسار مستقل
وفتح البلاد على العالم. ومع ذلك، بمجرد توليهم المنصب، فشلوا، بسبب كونهم مقيدين
من قبل معارضة المرشد الأعلى النشطة، فرغم أن كل هؤلاء بدوؤا حياتهم المهنية كموالين متحمسين للدولة
الموازية، وقد ساعدوا بالفعل في بناء أسس الجمهورية الإسلامية.
وكان
الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني أول من قام بالمحاولة الأولى لإضعاف الدولة
الموازية؛ فرغم إنه كان هو نفسه أحد مؤسسي المؤسسة الثيوقراطية، فضلاً عن كونه
داعمًا فعالاً لتعيين خامنئي كمرشد أعلى، ولكن كرئيس لإيران من 1989 إلى 1997،
حاول رفسنجاني إخراج البلاد من مرحلتها الثورية وإعادة بناء اقتصادها المتصدع من
خلال تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا. وسرعان ما دخل في صراع على
السلطة مع خامنئي؛ حيث سعى إلى ضم الحرس
الثوري الإيراني إلى الجيش أو على الأقل تحويله إلى فرقة نخبة صغيرة، كان هدفه هو
جعل عملية صنع القرار مركزية داخل الحكومة ومنع مصالح الدولة الموازية من التدخل
في قضايا الأمن القومي.
ولكن أحبط
خامنئي تلك الخطة وألغى تعديلاً دستوريًا مقترحًا كان سيسمح لرفسنجاني بالترشح
لولاية ثالثة على التوالي، ومن هنا، يدين خاتمي بفوزه الساحق في انتخابات عام 1997
جزئياً إلى رفسنجاني، الذي استخدم سيطرته على الآلة السياسية لدعم المرشح الإصلاحي
غير المتوقع؛ حيث ناشد برنامج خاتمي التقدمي الشباب والنساء والطبقة الوسطى
الساخطين التي تضخمت بسبب إصلاحات رفسنجاني الاقتصادية. وأشرف خاتمي على فترة
وجيزة من التحرر السياسى، والتى ظهرت خلالها مئات من وسائل الإعلام الجديدة، وطرح
المثقفون أفكارًا حول التعددية الدينية التي هددت احتكار المرشد الأعلى للحقيقة
الإلهية، وتحرك خامنئي والحرس الثوري الإيراني بقوة لإفشال أجندة خاتمي الإصلاحية
وتجنب أي تقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية، واعتقلوا مئات الصحفيين والمثقفين
والطلاب.
وفي
أعقاب هذه الحملة، بدت الدولة الموازية أن تكون على وشك الفوز في صراعها على
السلطة مع الحكومة؛ حيث أدار أحمدي نجاد حملة شعبوية في انتخابات 2005 وهزم
رفسنجاني الذي وصفه بأنه رمز النظام الفاسد، وطوال فترة رئاسة أحمدي نجاد، اخترق
الحرس الثوري الإيراني مؤسسات الدولة، وسارع من وتيرة تطوير البرنامج النووي،
واستغل عزلة إيران الدولية تحت العقوبات لتعزيز أنشطتها الاقتصادية. وعندما احتج
ملايين الإيرانيين على إعادة انتخاب أحمدي نجاد المتنازع عليها في عام 2009، قام
الحرس الثوري الإيراني بسحق المظاهرات بعنف. وقامت الدولة الموازية بسجن العديد من
القادة الإصلاحيين ووضع آخرين رهن الإقامة الجبرية. وكان من بين القتلى والمعتقلين
أطفال وأقارب لكبار المسؤولين المحافظين. واللافت للانتباه أنه في هذه اللحظة
تصدعت الدولة الموازية، الأمر الذى تمثل في اجبار قادة الحرس الثوري الإيراني على السفر إلى جميع أنحاء البلاد لإطلاع الأعضاء
العاديين وغيرهم من الشخصيات المحافظة على تبرير استخدامهم المفرط للعنف ضد
المتظاهرين.
لكن اشتبك
أحمدي نجاد في النهاية مع خامنئي والحرس الثوري الإيراني، وتخلى في ولايته الثانية عن موقفه المناهض للولايات المتحدة الأمريكية
لصالح المبادرات تجاه واشنطن واستبدل خطابه الإسلامي السابق بمناشدات القومية
الفارسية. واتهم الحرس الثوري الإيراني ووكالات المخابرات بتهريب سلع فاخرة مثل
السجائر ومنتجات التجميل النسائية (وغيرها من السلع) متخفية على أنها عناصر حساسة
من وإلى إيران، في محاولة لتجاوز المؤسسة الدينية ذاتها التي أوصلته إلى السلطة.
فبعد
ثماني سنوات من رئاسة الجمهورية، بدأ الإيرانيون في دعم الإصلاحيين الذين وعدوا
بالعودة إلى الحياة الطبيعية، الأمر الذى أدى إلى استبعاد رفسنجاني من الترشح في
انتخابات 2013 من قبل مجلس صيانة الدستور، ولذلك حشد رفسنجانى كل الدعم الذى كان
موجه له في ذلك الوقت إلى مستشار الأمن القومي السابق والمفاوض النووي لرفسنجاني
وخاتمي حسن روحاني، وشن روحاني حملته على منصة طموحة، وتعهد بالدفاع عن المواطنين
ضد عسكرة الحرس الثوري الإيراني والتطرف الديني الذي قيد الحياة اليومية للمواطنين،
وتأمين إطلاق سراح القادة الإصلاحيين من الإقامة الجبرية، وتحسين الاقتصاد من خلال
حل المأزق النووي.
فمع وجود
رفسنجاني والإصلاحيين خلفه، تم انتخاب روحاني رئيسًا في عام 2013 وأعيد انتخابه في
عام 2017، وعاد التكنوقراط إلى مناصب عليا واستأنفوا المفاوضات النووية التي
بدأوها قبل عقد من الزمن في عهد خاتمي ، لكن هذه المرة، تحدثوا ليس فقط مع القوى
الأوروبية ولكن أيضا مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث بدأت المحادثات
النووية الأولية بين طهران وواشنطن سرًا في عمان، بمباركة خامنئي، قبل بضعة أشهر
من انتخاب روحاني. لكن الفريق الجديد استخدم تفويضه الشعبي للضغط على المرشد
الأعلى لإظهار المزيد من المرونة في المفاوضات أكثر مما كان يود. وبعد عامين، أبرم
مفاوضو روحاني اتفاقًا مع ست قوى عالمية، خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) ، والتي عرضت على إيران بعض التخفيف من العقوبات مقابل الموافقة
على السماح بالتفتيش على منشآتها النووية والحد من تخصيب اليورانيوم، على الأقل
لبعض الوقت.
ثانيًا: الأسرار المسربة
ردت
الدولة الموازية بقوة لتهدئة النشوة التي استقبلت الاتفاق النووي لعام 2015، وبذلك،
قدمت دليلاً واضحًا على تصاعد حدة
الصراعات الداخلية، في أبريل 2021 تم تسريب ملف صوتي مدته ثلاث ساعات كان جزءًا من
تاريخ شفوي سري بتكليف من ذراع من مكتب الرئيس بشكل مجهول إلى وسائل الإعلام،
والذى تم من خلاله سماع وزير الخارجية محمد جواد ظريف يقول بصراحة إن سياسة إيران
الخارجية كانت دائمًا في خدمة الحرس الثوري الإيراني، ويؤكد هذا التسريب على أن
إدارة روحاني اعتبرت البرنامج النووي الإيراني مشروعًا للحرس الثوري الإيراني لايصب
بالكامل في مصلحة الدولة. كما قال ظريف إنه أخبر خاتمي وروحاني أن مجموعة ما – في
إشارة إلى الحرس الثورى- ألقت بالبلاد في بئر، وهذا البئر هو بئر نووي.
حتى أن
ظريف يتهم الحرس الثوري الإيراني بالتعاون مع روسيا لتخريب جهوده الدبلوماسية بشأن
القضية النووية؛ حيث خشي الروس من أن اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية يمكن أن
تقرب إيران من الولايات المتحدة الأمريكية. وبحسب ظريف ، فور إعلان خطة العمل
الشاملة المشتركة ، التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع قائد فيلق القدس التابع
للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، لمناقشة الصراع السوري، ثم بدأت الصواريخ
والطائرات الروسية عمدًا في التحليق في مسار أطول عبر الأجواء الإيرانية لمهاجمة
القوات التي تقاتل نظام بشار الأسد في سوريا، وعليه، يكشف ظريف عن أن بوتين كان
ينوي دفع إيران إلى التعاون مع روسيا في معركة إقليمية كوسيلة لإبقاء طهران في
صراع مع واشنطن.
ففي
السنوات التي أعقبت عقد خطة العمل الشاملة المشتركة، وجد ظريف نفسه يسعى باستمرار
لإصلاح الضرر الذي لحقه الحرس الثوري الإيراني بدبلوماسيته الحذرة؛ حيث أخبر
سليماني ظريف بالقليل عن خططه. فعلى سبيل المثال، في يناير 2016، تم تخفيف العقوبات
الأمريكية على شركة الطيران الإيرانية الرئيسية " إيران إير" كجزء من الاتفاق
النووي. لكن بعد خمسة أشهر، علم ظريف من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أن
الخطوط الجوية الإيرانية باتت تستأنف رحلات
لنقل الأسلحة إلى حزب الله في سوريا، وهو الإجراء الذي أدى لفرض العقوبات عليها في
البداية.
وعليه، عرّضت
الرحلات الجوية أسطول إيران للطيران المتقادم للخطر وفرضت عقوبات جديدة. يلخص ظريف
بشدة وجهة نظر الحرس الثوري الإيراني بشأن هذه المسألة - أنه إذا كان استخدام شركة
الطيران الإيرانية لهذا الغرض يمنح ميزة بنسبة 2٪، لكنه يكلف دبلوماسية الدولة
200٪، فهل كان الأمر يستحق استخدامه!". وهو ما تحسر ظريف على إثره بإنحسار شعبيته
بين الإيرانيين التى انخفضت من 88 % إلى 60 %، بينما قفزت نسبة تأييد سليماني إلى
90٪ بفضل تصويره البطولي في وسائل الإعلام المدعومة من الحرس الثوري الإيراني.
فطوال
فترة توليه منصبه، وجد روحاني نفسه في حالة حرب مع الدولة الموازية، تمامًا مثل
أسلافه. فبالعودة إلى الثمانينيات، ساعد روحاني في توسيع الحرس الثوري الإيراني من
منظمة تطوعية صغيرة إلى جيش كامل، بقوات برية وبحرية وجوية. وبعد ثلاثة عقود، اتهم
علنًا الحرس الثوري الإيراني بالتدخل المترامي الأطراف. ففي مؤتمر عام 2014
لمكافحة الفساد مع رؤساء القضاء والبرلمان، أظهر إحباطه من الأنشطة غير العسكرية
للحرس الثوري الإيراني. وقال دون تسمية الحرس الثوري الإيراني صراحة، "إذا
تجمعت الأسلحة والمال والصحف والدعاية في مكان واحد، يمكن للمرء أن يكون واثقًا من
وجود الفساد هناك".
فكان من
الممكن أن ينتهي هذا الصراع المألوف بين الحكومة الإيرانية المنتخبة في عهد روحاني، ومؤسسات الدولة الموازية في عهد
خامنئي، بشكل غير حاسم مثل الاشتباكات السابقة. لكن الزخم الخارجي - أي انتخاب
دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية في عام 2016 - أدى إلى قلب
التوازن بشكل حاسم نحو الدولة الموازية. وأكدت حكومة روحاني للإيرانيين أنه سيكون
من المستحيل على الولايات المتحدة الأمريكية إلغاء الاتفاق النووي من جانب واحد ،
لأنه كان اتفاقًا دوليًا تم التفاوض عليه بين القوى العالمية الست وصادق عليه مجلس
الأمن الدولي. لكن الحرس الثوري الإيراني قدم رهانًا مختلفًا، لأنه لا يثق بوعود
الولايات المتحدة ولا بالاتفاقيات الدولية. ما إن فاز ترامب بالرئاسة الأمريكية
حتى اصطفت الشركات الأمامية للحرس الثوري الإيراني في البنك المركزي الإيراني
ووزارة البترول والوكالات الحكومية الأخرى لتقديم عطاءات للحصول على عقود للتحايل
على العقوبات المالية وعقوبات الطاقة الأمريكية المحتملة.
فعندما
انسحب ترامب رسميًا من خطة العمل المشتركة الشاملة في عام 2018، كان التيار المتشدد في إيران هو المستفيد
من فرض العقوبات، الأمر الذى أدى لسيطرتهم على القطاع المالي الإيراني. فبسبب
إعادة فرض العقوبات الأمريكية، كان على إيران الآن الاعتماد على شبكة الحرس الثوري
الإيراني للتحايل على الشبكات المصرفية الدولية لبيع نفطها وإعادة العائدات إلى البلاد؛
فوفقًا للرئيس السابق للبنك المركزي الإيراني، عبد الناصر همتي، أدى استيلاء الحرس
الثوري الإيراني على هذه المعاملات المالية إلى ما يعادل عمولة بنسبة 20 % على كل
تحويل تقوم به الحكومة.
لطالما
ادعى الحرس الثوري الإيراني أن صواريخه الباليستية المتطورة وشبكة الوكلاء في جميع
أنحاء الشرق الأوسط تحمي وحدة أراضي إيران؛ ففي عام 2019، وبعد أن أصبح واضحًا أن
سياسة "الصبر الاستراتيجي" الإيرانية في التمسك بخطة العمل الشاملة
المشتركة لم تؤتي ثمارها، شرع الحرس الثوري الإيراني في اتخاذ إجراءات لإرساء
الردع ضد المزيد من الضغوط من الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذى اتضح في
الهجوم منشأة لمعالجة النفط في المملكة العربية السعودية وإسقاط طائرة أمريكية
بدون طيار فوق الخليج العربي.
فعلى مدى
عقود، كانت الدولة الموازية تخشى أن يتحد المجتمع الإيراني مع الحكومة المنتخبة
للتغلب عليها، لقد تصرفت الدولة الموازية، الأمر الذى أدى لتأرجح سياسات الدولة
الموازية بحكمة وعنف في كثير من الأحيان، لإحباط هذا الاحتمال. الآن يمكن أن نتصور
مستقبلًا جديدًا مستقبل يتحد فيه كل من
المجتمع الإيراني والحكومة خلف الدولة الموازية، مما يجعل المرشد الأعلى والحرس
الثوري الإيراني أدوات لتطلعاتهم.
ثالثا- التعاون في الميدان
بحلول
انتخابات هذا العام، تغير المشهد السياسي والاجتماعي في إيران، توفي رفسنجاني،
الذي كان على مدى عقود من القوة القوية في السياسة النخبوية، فجأة إثر نوبة قلبية
في عام 2017، ولا يزال خاتمي قيد الإقامة الجبرية الفعلية، وتمنع الحكومة وسائل
الإعلام الإيرانية من ذكره أو نشر صورته. لا يزال أحمدي نجاد ناقدًا صريحًا: فقد
وصف مستشارون سابقون في وسائل الإعلام الإيرانية كيف يتصور نفسه كإيراني بوريس
يلتسين، مصيره ركوب الاحتجاجات الجماهيرية إلى السلطة لإنقاذ الأمة، لكن فصيل
أحمدي نجاد تم تطهيره من كل المؤسسات الهامة.
وكانت
الكتلة الإصلاحية هى الخاسر الأكبر في حملة 2021، التي فشلت خلالها قيادتها في
تقديم جبهة موحدة أو خطة عمل متماسكة، كانت الحركة قد حشدت ذات مرة ما يكفي من
الدعم الشعبي لدفع خاتمي إلى الرئاسة، وشكلت لاحقًا جزءًا مهمًا من التحالف وراء
روحاني. الآن ، ومع ذلك، يبدو أنه بعيد المنال؛ حيث ارتفع معدل التضخم في إيران
إلى 40 % بعد انسحاب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة، مماأدى إلى تصاعد
معدلات البطالة، والفقر، والشاهد على ذلك هو تصاعد معدل الفقر في غضون عامين
فقط من 15 % في عام 2017 إلى 30 % في عام
2019. وعليه، تراجعت جهود المجموعات الطلابية والمنظمات النسائية لتنظيم
الاحتجاجات ضد القمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان استبدالها بأعمال شغب عنيفة مرتجلة بسبب المظالم
الاقتصادية ونقص المياه وانقطاع التيار الكهربائي.
ففي
الماضي، نجح الإصلاحيون في الانتخابات من خلال تعزيز دور المجتمع المدني
والديمقراطية، ووعد روحاني بحل القضية النووية وتحسين العلاقات مع الولايات
المتحدة الأمريكية. تعتبر هذه القضايا بمثابة إسفين في إيران، مما أدى إلى زيادة
إقبال الناخبين، لا سيما بين النساء والشباب. لكن في انتخابات هذا العام، لم يجد
خامنئي والحرس الثوري الإيراني مقاومة تذكر في طريقهما لهندسة فوز رئيسي؛ حيث
استبعد مجلس صيانة الدستور جميع المرشحين الذين كان بإمكانهم تنشيط الناخبين، ولم
يقتصر الأمر على منع كل الإصلاحيين وأحمدي نجاد ولكن أيضًا رئيس البرلمان السابق
المعتدل نسبيًا وكبير المفاوضين النوويين علي لاريجاني.
في
النهاية انقسم أنصار الإصلاحيين إلى ثلاثة معسكرات، ما بين المقاطعين، وأصحاب الأصوات
البيضاء، وأولئك الذين صوتوا لصالح همتي. وجاءت نسبة المشاركة بنسبة 49 %، وهي
أدنى نسبة لانتخابات رئاسية في تاريخ الجمهورية الإسلامية؛ حيث نجحت الحملة
المتشددة ليس فقط بسبب القمع ولكن أيضًا من خلال سرقة صفحة من كتاب قواعد اللعبة
لخصومها. تعود خلفية رئيسي بالكامل تقريبًا إلى القضاء الديني ، ولكن كمرشح رئاسي
، شدد على الأمن والازدهار بدلاً من الدين والأيديولوجية. ركض على منصة مكرسة
لبناء "إيران قوية" ، واعدًا بمعالجة الفساد الحكومي وتحييد تأثير
العقوبات من خلال تكرار اعتماد الحرس الثوري الإيراني على نفسه في صناعة الدفاع في
الساحات غير العسكرية أيضًا. عندما أجرى حملة في البازارات والمصانع وسوق الأوراق
المالية في طهران ، أظهرت وسائل الإعلام التابعة للحرس الثوري الإيراني أنه يتحدث
إلى العمال والتكنوقراط حول إعادة فتح الشركات المفلسة وإنعاش الاقتصاد.
لم يتظاهر
رئيسي بأنه تكنوقراط وسطي فحسب، بل استحوذ على الخطاب العلماني للإصلاحيين أيضًا،
ووعد بمحاربة العنف المنزلي وتعهد بإثناء شرطة الأخلاق المكروهة بشدة عن مضايقة
الناس العاديين وتشجيعهم بدلاً من ذلك على ملاحقة الفساد الاقتصادي والبيروقراطي،
الأمر الذى أشارت على إثره أشارت الصور التي نشرتها حملته إلى أن من بين مؤيديه
نساء لم يلتزمن بالزي الرسمي الصارم.
رابعًا- الدولة الموازية كدولة موحدة
تعمل
القوى التي هندست انتصار رئيسي على تطهير أعلى المراتب في الجمهورية الإسلامية
لتسهيل عملية خلافة خامنئي، وهى العملية التى من المحتمل أن يلعب فيها رئيسي دورًا
رئيسيًا؛ حيث يعتبر رئيسي ببساطة جزء من مشروع سياسي أكبر يسعى إليه خامنئي في
سنواته الأخيرة، قد يقوم الرئيس الجديد بتعديل مواقفه من الناحية التكتيكية، لكن
أي تحول حقيقي في السياسة سيحدث بالتنسيق الوثيق مع المرشد الأعلى. ومن هنا، تعمل
الدولة الموازية على توسيع قاعدتها الاجتماعية إلى ما وراء الإسلاميين لتشمل
القوميين غير المتدينين، في محاولة لاستيعاب التأثير المتزايد لأولئك الذين
يحتقرون الفرض الرسمي والانتقائي للشريعة الإسلامية. انضمت العديد من النساء المحجبات
إلى الحملة المناهضة للحجاب، لأنهن يرون أن الزي مثير للانقسام، ويولد الاستياء
تجاههن في الشارع. تم تصميم استيلاء رئيسي الانتقائي والقابل للعكس على أجندات
السياسة الخارجية والاجتماعية للإصلاحيين لتقويض قدرتهم على العودة إلى المشهد
السياسي في هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ الإيراني.
ففيما
يتعلق بالسياسة الخارجية ، سيحاول رئيسي قلب التطلعات العالمية الفاشلة لأسلافه
رأساً على عقب؛ حيث توصل الرؤساء السابقون إلى الاعتقاد بأن أفضل طريقة لأن تكون
إيران آمنة هي جعل البلاد جزءًا مزدهرًا من الاقتصاد العالمي. لكن يعتقد رئيسي،
على العكس من ذلك، أن إيران القوية ذات النفوذ الإقليمي بلا منازع هي وحدها
القادرة على ردع القوى الخارجية وتحقيق الازدهار الاقتصادي. لذلك، من المتوقع أن
يعزز القدرات العسكرية للحرس الثوري الإيراني لمواجهة الضغط الأمريكي، الأمر الذى
يعنى تعزيز شبكة الوكلاء التابعة للفيلق في العراق ولبنان واليمن وخارجها، وكل ذلك
في خدمة حماية الدولة الموازية الأصلية في إيران.
كما
ستعمل الإدارة الجديدة على تعميق العلاقات الأمنية والاقتصادية لإيران مع كل من
الصين وروسيا؛ حيث وجه بوتين واحدة من أولى وأقوى التهاني للرئيس الجديد، معربًا عن
ثقته في أن يؤدى انتخاب رئيسي إلى مزيد من تطوير التعاون الثنائي البناء بين البلدين.
كما وقعت طهران مؤخرًا شراكة تجارية وعسكرية مدتها 25 عامًا مع بكين. ومن
المفارقات أن القضاء على أي تقارب محتمل مع الولايات المتحدة الأمريكية أدى إلى
تماسك السياسة الخارجية الإيرانية. فهناك إجماع عام عبر الطيف السياسي الإيراني
على أن العلاقة العدائية بين بلادهم والولايات المتحدة ستستمر إلى أجل غير مسمى.
وبالتالي، لم تعد الفصائل المتنافسة في إيران مهووسة بالتداعيات المحلية لتحسين
العلاقات مع واشنطن. وهذا يعني أنه لا نجاح خطة العمل الشاملة المشتركة ولا فشلها
يمكن أن يخل بشكل كبير بتوازن القوى الداخلي.
لكن رئيسي
بحاجة إلى نجاح دبلوماسي على الجبهة النووية للتعامل مع بحر من المشاكل الداخلية،
لكن على عكس روحاني، فهو لا يراهن على ثروته السياسية؛ حيث يرى فريق السياسة
الخارجية المتشدد التابع له أن الولايات المتحدة ملتزمة أيديولوجيًا بتدمير
الجمهورية الإسلامية. ويفترض أن واشنطن ستحاول التراجع عن أي اتفاق إما بشكل صريح،
كما فعل ترامب، أو بمهارة ، كما فعلت إدارة أوباما، من خلال عدم إزالة العقوبات
المالية على إيران بشكل صحيح.
لذلك، تحضّر القوى السياسية التي دفعت رئيسي إلى
الرئاسة، لإجراءات انتقامية خطوة بخطوة في حال تعثر إحياء خطة العمل الشاملة
المشتركة. كما أنهم ملتزمون بالحفاظ على البنية التحتية النووية الإيرانية، للحفاظ
على خيار تسليح البرنامج بسرعة إذا انهار الاتفاق. في الوقت نفسه، قد يؤدي توقيع
اتفاق نووي جديد عن غير قصد إلى إنشاء منطقة أكثر قابلية للاحتراق: حيث تخشى طهران
من أن تمنح الولايات المتحدة الأمريكية حرية مطلقة لملاحقة نفوذها الإقليمي، ويخشى
أعداء طهران من أن تزود إيران المزيد من الموارد لتعزيز وكلائها وبرنامج الصواريخ.
يبدو أن
المعضلة الأمنية الناتجة مهيأة لتصعيد التوترات بين إيران والولايات المتحدة، فالبلدان
متورطان بالفعل في صراع منخفض المستوى ولكنه مستمر في العراق، حيث تصطدم القوات
الأمريكية والميليشيات الموالية لإيران. على الرغم من أن رئيسي أصر على احتمال
إجراء محادثات مع القوى الإقليمية لتقليل التوترات، فإن القيادة الموحدة الناشئة
في إيران ترى نفسها في وضع يربح فيه الجميع. إنها واثقة من جيشها وقد عرفت منذ
فترة طويلة كيف تزدهر في النزاعات وتوسيع حلفائها من غير الدول. بفضل التحول
السياسي المحلي الجدي ، يمكنها أيضًا تقديم تنازلات تكتيكية مع خصومها دون المخاطرة
بتفاقم الانقسامات الداخلية، ومع بدء عهد جديد للجمهورية الإسلامية، تسير إيران
والولايات المتحدة على مسار تصادمي.
Mohammad Ayatollahi Tabaar, Iran’s War Within: Ebrahim
Raisi and the Triumph of the Hard-Liners, foreign affairs, September/October
2021, available at https://www.foreignaffairs.com/articles/iran/2021-08-05/irans-war-within-ebrahim-raisi?fbclid=IwAR3Mq2AAtSGvlzkdPqEO2JJ2IRajBmmMM1t3C5XN2Q2-rdIfRmk07gne5cw