الاحتجاجات الأمريكية .. الأسباب الداخلية والتداعيات الخارجية
تشهد الولايات المتحدة الأمريكية موجة جديدة من
التظاهرات على خلفية قيام شرطي أمريكي بتعذيب جورج فلويد وهو مواطن أمريكي من أصول
أفريقية حتى الموت، وبسبب هذا ازدادت رقعة المظاهرات توسعًا في الولايات المتحدة
احتجاجًا على مقتل الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد إثر تدخل عنيف للشرطة في
مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، وندد الرئيس دونالد ترامب بأعمال الشغب، داعيا
إلى "المصالحة، لا الكراهية، وإلى العدالة، لا الفوضى".
وقد تسببت هذه الأزمة في اندلاع موجة غضب كبيرة نتج عنه فرض
حظر تجوّل في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا الأميركية لإعادة الأمن إلى
المنطقة بعد اضطرابات أعقبت مقتل فلويد، وتعم الاحتجاجات بالإضافة إلى مينيابوليس
أكبر مدن البلاد مثل نيويورك ولوس أنجلوس وميامي وسياتل وفيلاديلفيا والعاصمة
واشنطن، وامتدت المطالبات التي تدعو إلى محاسبة الشرطي الأمريكي إلى المطالبة
باستقالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وذلك بعد تصاعد موجة هذه التظاهرات، ومن
ناحية أخرى ولمواجهة هذه التظاهرات طالب الرئيس الأمريكي ترامب في 31 مايو 2020
نشر قوات الحرس الوطني في شتى مدن الولايات المتحدة، لمواجهة هذه الاحتجاجات وذلك
بعد اتهامه لحكام الولايات بالضعف في مواجهة أعمال الشغب الناتجة عن هذه
التظاهرات، وقد أشركت 12 ولاية حتى الآن قوات من الحرس الوطني للتعامل مع
الاحتجاجات التي تحولت سابقًا في كثير من المدن إلى اضطرابات وأعمال شغب.
تجذر
الاحتجاجات العنصرية
بعد انتخاب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما –من
أصول أفريقية- في عام 2008 اتجهت التحليلات السياسية والاجتماعية إلى أن هذه
الخطوة تعتبر امتدادًا طبيعيًا لذروة حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، خاصة
وأنها تأتي بعد سلسلة من القمع والمنع، على سبيل المثال في أواخر الستينيات من
القرن الماضي، لم يتمكن الأمريكيين من أصل أفريقي من التصويت في الانتخابات في
كثير من أجزاء الولايات المتحدة. ولكن الأن، وبعد مرور أكثر من 50 سنة، إنتخب
الأمريكييون أول رجل أسود رئيسًا لبلدهم، ويجب افشارة هنا إلى إن انتخاب أوباما لا
يمكن إعتباره علامة فارقة في تحقيق المساواة بين جميع الأعراق. ولكن بالتأكيد فإن انتخابه
لم يكن ليحدث لولا التقدم الذي حققته حركة الحقوق المدنية.
وبرغم هذا التقدم إلا أنه خلال الثلاثة عقود الماضية
عرفت الولايات المتحدة الأمريكية العديد من الاحتجاجات الضخمة والمظاهرات إضافةً
إلى العنف المصاحب لها، عدا عن مئات بل ربما آلاف الحوادث العنصرية التي لا تفتأ
تكرر نفسها، ولم تكن تلك الاحتجاجات تمر دون تدمير وتخريب للممتلكات أو سقوط ضحايا
قبل أن تهدأ وتسيطر السلطات على الأوضاع فيها، ففي عام 1992 شهدت الولايات المتحدة
أعمال شغب في لوس أنجلوس، كما شهدت مدينة سانت بطرسبرغ في ولاية فلوريدا في عام
1996، احتجاجات واسعة إثر مقتل شاب أسود غير مسلح على يد الشرطة الأمريكية، الأمر
الذي دفع المحتجين للانطلاق في شوارع المدينة احتجاجًا على هذه الممارسات، وفي عام
2001، أعلن عمدة مدينة سينسيناتي بولاية أوهايو الأمريكية تشارلز لوكن حالة
الطوارئ في المدينة، وأصدر قرارًا بمنع التجول، وأتت تلك القرارات على خلفية
ازدياد أعمال الشغب والمظاهرات التي انطلقت بعد مقتل مواطن أسود على يد رجال
الشرطة.
وضمن السياق ذاته قتل شرطي أبيض الشاب الأسود مايكل
براون في أغسطس 2014، في مدينة فيرغسون بولاية ميزوري وهو ما أثار أعمال شغب
عنيفة، استمرت عشرة أيام بين السكان السود وقوات الأمن، وفي نوفمبر من نفس العام
تجددت أعمال الشغب في فيرغسون إثر إعلان إسقاط الملاحقات بحق الشرطي الذي أطلق
النار، وغيرها من الأحداث في بالتيمور عام 2015، وأعمال شغب ميلووكي عام 2016.
اختلال
قانوني
الجدير بالذكر هنا أن هذه الاحتجاجات التي تحدث بصورة
دورية تؤكد على وجود اختلال في المنظومة القانونية والقيمية داخل الولايات المتحدة
فيما يخص الحقوق المدنية والسياسية التي يحصل عليها المواطنون من أصول أفريقية أو
آسيويه، وعلى الرغم من أنه في عام 1868، تم اعتماد التعديل الرابع عشر للدستور
الأمريكي والذي ينص على أنه "لا يجوز لأي ولاية تشريع أو فرض أي قوانين تمنع
الأمتيازات أو الحصانات التي يمتلكها مواطنوها الولايات المتحدة، ولا يجوز لأي
ولاية حرمان الأشخاص من حق الحياة والحرية وحق التملك، دون إتباع الإجراءات
القانونية، ولا يحق لأي ولاية حرمان أي شخص ضمن سلطاتها من المساواة في حمايته ضمن
القانون". ولكن من جهة ثانية فإن الممارسات العنصرية من جانب العرق الأبيض في
الولايات المتحدة لم تقتصر فقط على المواطنين بل إن الأمر وصل حد تجذر هذه
العنصرية في داخل المؤسسات الرسمية الأمريكية.
وللتأكيد على ذلك فرضت الولايات الجنوبية منذ سبعينات
القرن التاسع عشر حتى نهايته نظام تفوق البيض وذلك من خلال الفصل القانوني بين
البيض والسود بإستخدام عدة تشريعات. عرفت هذه القوانين في ما بعد بقوانين جيم
كرو والتي فرضت ثلاثة أشياء رئيسية هي:
* الفصل
العنصري بين الأعراق في الأماكن العامة بضمنها المدارس الحكومية، والمتنزهات،
وأماكن المبيت، ووسائل النقل.
* حرمان
الذكور السود من حق الإنتخاب عن طريق فرض ضرائب الإنتخاب وأختبارات القراءة وخدع
أخرى.
* منع
الزواج المختلط بين الأعراق.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن ثقافة العنف والإرهاب ساهمت بعزل
السود والبيض. وأنتشرت حملة وحشية وهي الإعدام خارج نطاق القانون والتي كان يتم
تنفيذها ضد السود حتى منتصف القرن العشرين، وهذه الإعدامات كانت تنفذها حركات تفوق
البيض مثل جماعة (كو كلوكس كلان). المتهمون بهكذا الجرائم عادة ما كانت تبرئهم
هيئات المحلفين التي تتكون من البيض فقط.
انعكاسات
داخلية وخارجية
بالتزامن مع اندلاع الاحتجاجات في الداخل الأمريكي فإن
الإدارة الأمريكية لم تتعامل بضورة تمكنه من احتواء المخاطر الناتجة عن هذه الاحتجاجات،
وعلى الرغم من دعوة الرئيس ترامب إلى تحقيق المصالحة، إلا أنه اقتصر التعامل في
مواجهة هذه الاحتجاجات على الجانب العسكري والأمني دونما الاعتبار لباقي الأدوات،
وهو الأمر الذي تحدثت عنه تقارير إعلامية
متعددة حول الهجمات التي تقوم بها عناصر الشرطة على المحتجين، وهو ما دفع
"منظمة العفو الدولية" إلى المطالبة بتوقف السلطات الأمريكية عن استخدام
"العنف المفرط" ضد المتظاهرين في الاحتجاجات التي تعم الولايات المتحدة،
معتبرة أن شرطة البلاد فشلت في تنفيذ التزاماتها، في ظل ما تم إعلانه من جانب الرئيس
الأمريكي لحكام الولايات، في مؤتمر عبر الفيديو، إلى إقرار حملات اعتقال واسعة،
وسن تشريعات تُجرّم حرق علم الولايات المتحدة، وضمن السياق ذاته فإن الرئيس
الأمريكي كان يشجع حكام الولايات على تكثيف اعتمادهم على قوات الحرس الوطني،
بالإضافة إلى أنه لم يتحدث في خطاب عام للتعليق على الأحداث، وعوضًا عن ذلك لجأ
إلى موقع تويتر ليلقي باللوم على متشددين يساريين.
ويجب الإشارة هنا إلى أن هناك انعكاسات متعددة ستؤثر على
مجريات الأوضاع الداخلية والخارجية والتي من أهمها:
1. الانتخابات الرئاسية
فيما تتواصل الاحتجاجات بشقيها السلمي والعنيف في شوارع
مدن الولايات المتحدة الأمريكية تتصاعد التجاذبات السياسية بين الرئيس دونالد
ترامب ومنافسه المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية جو بايدن للفوز في
الانتخابات المقبلة المزمع انعفادها في الثالث من نوفمبر 2020.
وقد تعرض الرئيس الأمريكي ترامب إلى انتقادات كبيرة من
جانب المرشح للانتخابات الأمريكية بايدن على خلفية اتجاه ترامب منذ بداية
الاحتجاجات إلى الاعتماد على خيار القوة الأمنية والعسكرية لردعها وحرص في خطابه
الأخير على اعطاء صورة رئيس "القانون والنظام" متجاهلًا التداعيات السياسية
للاحتجاجات واشكالية العنصرية المستشرية في مؤسسات الدولة الأمريكية وركز فقط في
خطاباته وتغريداته على أعمال النهب والتخريب متوجهًا إلى قاعدته الانتخابية
بالأساس.
وضمن السياق ذاته انتقد بايدن الرئيس الأمريكي في
استخدامه للجيش في قمع المظاهرات لغايات انتخابية. وقال بايدن في تغريدة عبر
تويتر: " إن ترامب يستعمل الجيش والغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي من
أجل التقاط صورة" وذلك في اشارة الى قيام ترامب بزيارة كنيسة سان جون
المجاورة للبيت الأبيض التي كانت تعرضت لعملية حرق من طرف المحتجين والتقاطه صورة
وهو يحمل الكتاب المقدس. وهي الصورة التي تم تأويلها كإشارة من ترامب في اتجاه
اوساط المتدينين المسيحيين المحافظين الذين يشكلون حجر الزاوية في قاعدته
الانتخابية، بالإضافة إلى ذلك حرص بايدن بدوره على اقحام الانتخابات في ساحة الجدل
حين دعا الأمريكيين إلى الاتحاد من أجل هزيمة ترامب انتخابيًا وقال: "من أجل
أولادنا وروح بلادنا علينا أن نهزمه ولا يمكن أن نفعل ذلك إلا معًا"
ومن ناحية أخرى أعلن الرئيس الأمريكي السابق باراك
أوباما نفس التوجهات التي أعلنها بايدن، وحث المحتجين على الاطاحة بترامب عبر
صناديق الاقتراع وترجمة الاحتجاج الى ممارسة سياسية عبر التصويت من أجل انتخاب إدارة
جديدة تأخذ على عاتقها مكافحة ظاهرة العنصرية في مؤسسات الدولة خاصة في أجهزة
الشرطة والقضاء.
2. السياسة الخارجية الأمريكية
هناك مؤشرات عديدة على تعدد التأثيرات الخارجية كنتيجة
عن الاحتجاجات التي تشهدها الولايات المتحدة والتي سوف تنعكس على مسارات التوجهات
الخارجية للإدارة الأمريكية الحالية والقادمة خاصة وأن هذه الاحتجاجات تأتي بعد
سلسلة من الصدامات السياسية والاقتصادية التي تتعرض لها الولايات المتحدة في
علاقاتها الدولية والإقليمية، والتي تزيد من أهميتها
هذه المرة كونها تأتي قبل فترة وجيزة من انعقاد
الانتخابات الرئاسية الأمريكية وما يمكن أن يؤثر تغيير الإدارة الأمريكية على
دوائر العلاقات الخارجية ذات الصلة بالولايات المتحدة.
الجدير بالذكر أن الإدارة الحالية في ظل الرئيس ترامب تشهد
منذ وصولها للسلطة في عام 2017 مجموعة من الأزمات الخارجية والتي تسببت في زيادة
مستوى التوترات مع الكثير من دول العالم؛ حيث تشهد علاقاتها توترات متصاعدة مع دول
الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا بالإضافة إلى توتر علاقاتها مع فنزويلا وإيران
والكثير من الدول العربية بسبب القضية الفلسطينية، وضمن السياق ذاته فإن السياسة
المتبعة من جانب الولايات المتحدة والقائمة على مبدأي الصفقة السياسية ومفهوم
أمريكا أولًا ساهم في تصاعد هذه الخلافات.
3. التوظيف الدولي للاحتجاجات
في ضوء فشل الإدارة الأمريكية في التعامل مع الأحداث
التي تشهدها أكثر من 30 ولاية أمريكية، استغلت العديد من الدول التي تتعارض
مصالحها مع الولايات المتحدة في توظيف هذه الأحداث في الضغط على الولايات المتحدة،
وضمن السياق ذاته أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو لي جيان، أن
“أعمال الشغب في الولايات المتحدة الأميركية والتي نجمت عن وفاة الأميركي من أصول
أفريقية جورج فلويد، كشفت عن خطورة مشكلة التمييز العنصري والوحشي لضباط الشرطة
فيها”. وقال خلال مؤتمر صحفي، “نحن نتابع
تطور الوضع المتعلق بوفاة جورج فلويد لدى الأميركيين من اصل إفريقي حق في الحياة
ويجب حماية حقوقهم. والتمييز العنصري للأقليات القومية هو مرض مزمن في المجتمع
الأميركي. وقد كشف الوضع الحالي مرة أخرى عن شدة التمييز العنصري ووحشية إنفاذ
القانون وضرورة حل هذه المسائل بالطريقة السلمية، وأعرب عن أمله في أن تتخذ
الولايات المتحدة التدابير اللازمة لحماية الحقوق القانونية للأقليات القومية”.
ويعكس هذا الأمر مدى إمكانية توظيف هذه الأحداث في
التأثير على التوجهات الأمريكية الخارجية خاصة وأنها تعتمد بصورة كبيرة على
استثمار هذه الملف في سياستها الخارجية لتبرير تدخلاتها الدولية في الكثير من
القضايا الدولية.
ختامًا:
تزداد أهمية الاحتجاجات في تأثيراتها كونها جاءت بعد سلسلة من التوترات الداخلية
والخارجية والتي فشلت الإدارة الأمريكية في التعامل معها بصورة صحيحة، وفيما يخص
هذه الأزمة فمنذ بدايتها ركز الرئيس الأمريكي ترامب على التصدي لأعمال الشغب،
دونما الاعتبار لمطالب المتظاهرين في تحقيق العدالة بل على العكس من ذلك امتد
انتقاده لوصف المتظاهرين بالفوضويين، ومن المحتمل أن تنعكس هذه الأحدا ث في
تداعياتها على الكثير من السياسات خاصة وأنها جاءت في ظل فشل الإدارة الأمريكية في
احتواء ومواجهة انتشار فيروس كورونا المستجد وهو الأمر الذي ساهم في تصاعد الغضب
الشعبي لإدارة الرئيس ترامب.
المراجع
1) كيف عملت حركة الحقوق
المدنية؟، على الرابط: http://www.iraqi-res.com/?p=7458
2) ترامب: نشر الحرس
الوطني في شتى مدن الولايات المتحدة لمواجهة الاحتجاجات، على الرابط:
https://alborsaanews.com/2020/05/31/1352131
3) مقتل جورج فلويد:
دونالد ترامب "يتهم حكام الولايات بالضعف" في مواجهة الاحتجاجات، على
الرابط:
https://www.bbc.com/arabic/world-52885784
4) معركة سياسية وانتخابية
بالموازاة مع الاحتجاجات في الولايات المتحدة، على الرابط: