شهدت السودان احتجاجات واسعة ضد نظام عمر البشير الذي تم
الإطاحة به في 11 إبريل 2019، من قبل المجلس العسكري هناك، وبعد شهور من التظاهرات
والاحتجاجات الشعبية الداخلية والتي اتسمت في بعض الأحيان بالعنف، إلا أن قوى
الحرية والتغيير التي تقود التظاهرات والمجلس العسكري الانتقالي وضعوا اللبنة
الأولى لتحقيق التوافق الداخلي حول مستقبل الحكم في السودان من خلال وثيقة الإعلان
الدستوري في 17 أغسطس 2019، وتكمن أهمية هذا الاتفاق كونه جاء بعدما تم تجميد المحادثات
أسابيع بعد اعتداء رجال بملابس عسكرية على المحتجين أمام قيادة الجيش في الخرطوم في
3 يونيو 2019، وأدى إلى مقتل 127 شخصًا، وفقا لأطباء قريبين من حركة الاحتجاجات.
وعلى الرغم من أن الاتفاق في معطياته الأولية ينسحب
بصورة كبيرة على الأوضاع الداخلية وإعادة ترتيب البيت السوداني الداخلي، إلا أن
هذا الأمر سينعكس أيضًا على مسار العلاقات الخارجية السودانية سواء مع محيطها
الإقليمي أو القوى الدولية، وفي هذا الإطار سيتم تناول الدور التركي في السودان
بعد توقيع هذا الاتفاق، ومحدداته ومستقبله في ظل تلك المتغيرات.(1)
تركيا
والسودان مرحلة ما بعد البشير
لم تختلف السياسة التركية في فترة حكم الرئيس السوداني
السابق عمر البشير عن تلك القادمة بعده في ظل تقاسم السلطة بين الجانبين من قوى
الحرية والتغيير وبين المجلس العسكري السوداني الانتقالي، فعلى الرغم من حالة
الاضطرابات الداخلية السودانية حاولت أنقرة الاستمرار في توظيف أدواتها لتحقيق
المنافع السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ حيث يسعى النظام التركي لاستعادة زمام
المبادرة في الساحة السودانية من خلال توظيف المجال الديني والاقتصادي والسياسي
بعد أن أربك عزل الرئيس السابق عمر البشير خطط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
الجيوسياسية في السودان والمنطقة بصفة عامة.
وفي هذا الشأن ووفق المتغيرات الداخلية السودانية التي
ظهرت بعد رحيل البشير، عملت تركيا على التأكيد على ضرورة الانتقال السلمي للسلطة
وتسوية الأزمة الداخلية، خاصة بعدما أعلن المجلس العسكري الانتقالي رفضه إقامة
قاعدة تركية في جزيرة سواكن، وإنهاء العمل بالاتفاقية الموقعة بين الجانبين في
ديسمبر عام 2017، ومن جانب تركيا أكدت على ضرورة الإبقاء على الاتفاقيات المبرمة
بين الطرفين، في الوقت الذي باتت تتزايد التخوفات من إلغاء السلطة الانتقالية
لاتفاقية سواكن وهو أمر من شأنه أن يعيد خلط الأوراق التركية في المنطقة ويربك
جهودها في ترسيخ وجودها في واحدة من أهم المجالات الاستراتيجية والفضاءات
الجغرافية التي تعد مجالًا حيويًا لأمن المنطقة وخاصة لأمن السعودية ومصر، وذلك
لأن جزيرة سواكن تحظى بأهمية استراتيجية كونها أقرب الموانئ السودانية إلى ميناء
جدة الاستراتيجي على البحر الأحمر، تبلغ مساحتها عشرين كيلومترًا مربعًا، وفيها
أكثر من 370 قطعة أرض سكنية وحكومية، ستقوم الحكومة التركية بإعادة ترميمها وجعلها
منطقة سياحية.
ولتحليل سياسة تركيا تجاه السودان لا يمكن تجاوز تصريحات
الرئيس التركي أردوغان والمتعلقة بسياساته التوسعية وحرصه على عودة الإرث العثماني
من جديد من خلال السودان لإيجاد موطأ قدم في البحر الأحمر وأفريقيا، ومن قبل استخدمت
الدولة العثمانية جزيرة سواكن مركزًا لبحريتها في البحر الأحمر، وضم الميناء مقر
الحاكم العثماني لمنطقة جنوب البحر الأحمر بين عامي 1821 و1885، ولم تنحصر مطامع
أنقرة في الجزيرة الاستراتيجية، فبالإضافة إلى سواكن؛ تستثمر تركيا في مطار
الخرطوم الدولي، واستأجرت الحكومة التركية أراضي بلغت مساحتها 780 ألف و500 هكتار
لمدة 99 عامًا.
وامتدادًا للسياسة التركية غادر وزير الخارجية التركي
مولود أوغلو أنقرة في 17 أغسطس 2019، إلى السودان، والتقى رئيس العسكري الانتقالي
السوداني، عبد الفتاح البرهان، في جلسة مغلقة في إطار زيارة يجريها الوزير التركي،
لحضور مراسم توقيع "وثيقة الإعلان الدستوري" النهائي، وأكد أوغلو مواصلة
بلاده تقديم الدعم للسودان حكومة وشعبًا، من أجل تعزيز الاستقرار والأمن هناك.(2)
الأدوات
التركية
تسعى تركيا في مسيرة بناء دورها في السودان إلى الاعتماد
على العديد من الأدوات اللازمة لتحقيق أهدافها في السودان بصورة خاصة والقارة الأفريقية
بصورة عامة، من خلال مدخلين أساسين؛ المدخل الديني والمدخل الاقتصادي، ومن خلالهم
تستهدف أنقرة تعظيم منافعها السياسية والعسكرية، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى
أن النظام التركي يسعى إلى استعادة زمام المبادرة في الساحة السودانية من خلال
توظيف المجال الديني بفتح خمس مساجد دفعة واحدة بعد أن أربك عزل البشير خطط
أردوغان الجيوسياسية، عن طريق هيئة الإغاثة الإنسانية التركية في 21 يونيو 2019،
بهدف استمالة السودانيين بعدما أثار تمسك أردوغان بحليفه البشير طيلة فترة
الاحتجاجات غضب الشارع السوداني الذي عانى لعقود من سوء الأوضاع الاقتصادية
والاجتماعية نتيجة سياسات الأحزاب الإسلامية.
على الجانب الاقتصادي؛ أبدت تركيا اهتمامًا متزايدًا تجاه
تطوير علاقاتها الاقتصادية مع السودان، وبدأت بتوقيع العديد من الاتفاقيات منذ عام
2014، الهادفة لتشجيع الاستثمار في البلدين إضافة إلى مذكرة تفاهم للتعاون في مجال
إنشاء مناطق حرة بهدف إنشاء وتأسيس بنية تحتية قوية للعلاقات الاقتصادية، وهذه
كانت أولى البوابات التي فُتحت أمام المستثمرين الأتراك في السودان، إضافة إلى
بداية تأسيس مشروعات مشتركة بين الدولتين في السودان، وهذا يتطلب بناء أسس التكامل
الاقتصادي بين الدولتين لتسهيل وإنجاز المشروعات وتسهيل عمل المؤسسات المالية
الممولة للمشروعات من ناحية التحويلات وفتح فروع للمصارف التركية في السودان وكذلك
المصارف السودانية في تركيا إضافة إلى انشاء مصارف مشتركة بين الجانبين لغرض تيسير
عمل المستثمرين، في المجال الزراعي واستصلاح الأراضي وتربية الحيوانات، والقطاع
السياحي، وفي هذا الأمر يُذكر أنه في عام 2009، رفعت حكومة السودان تأشيرة الدخول
عن المواطنين الأتراك، في إطار تعزيز العلاقات التجارية بين البلدين، ودعا الرئيس
السوداني عمر البشير، رجال الأعمال الأتراك إلى الاستثمار في السودان قائلًا:
«نريد إقامة شراكة استراتيجية بين البلدين. نريد رجال الأعمال الأتراك للاستثمار
ليس فقط في قطاع الزراعة، لكن أيضًا في بناء البنية التحتية».(3)
المشهد
الإقليمي والدولي
بالتزامن مع حالة الاضطرابات الداخلية السودانية فإن هذه
الاضطرابات امتدت تأثيراتها إلى خارج حدود السودان، إقليميًا ودوليًا، وهذا المشهد
الإقليمي والدولي الذي تنخرط بداخله العديد من الدول ليس جديد بحداثة الاضطرابات
الداخلية السودانية، ولكنه برز بصورة كبيرة على الساحة بعد هذه الأحداث، خاصة بعدما
تم تعليق عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي حتى تتولى إدارة البلاد سلطة مدنية
انتقالية للخروج من الأزمة، ومن ثم توالت العديد من الجهود الفردية من جانب دول
عدة، خاصة من جانب مصر وإثيوبيا لتسوية الأوضاع الداخلية وفق نمط الجهود الهادفة
لتحقيق المساعي الحميدة في سياستهما وأن مصر ترأس الاتحاد الأفريقي وتمتلك العديد
من الأوراق التي يمكن أن تخدم مستقبل العملية الانتقالية بعد توقيع الوثيقة
الدستورية.
من زاوية أخرى
فإن الدور التركي الذي بدأ قديمًا ويحاول الاستمرار في ظل العديد من القوى
الإقليمية المناوئة له ولوجوده، ومن ثم ظهرت محاور صراعية جديدة قديمة ولكن بصورة
أكبر؛ فبعد سيطرة تركيا على جزيرة وميناء سواكن وعلى الجانب الآخر الحضور القطري في
ميناء بورت سودان وتطويره ليصبح أكبر ميناء للحاويات على البحر الأحمر، فإنه بذلك
سيتم السيطرة على الممر الأكثر محورية في منطقة البحر الأحمر من الحدود المصرية
إلى باب المندب في اليمن، هذه السيطرة من جانب الحليفتين تركيا وقطر في مواجهة
التواجد السعودي والإماراتي قد يكون انعكاسًا ونقل لساحة توتر جديدة في العلاقات العربية
التركية وخاصة مصر والسعودية والإمارات اللذين يرفضون التواجد التركي ودور أنقرة
في تهديد أمن واستقرار المنطقة.(4)
بالإضافة لذلك؛ دعت الحكومة السودانية السابقة روسيا
إقامة قاعدة عسكرية لها في مدينة سواكن وبالدرجة الأولى فإن طلب الخرطوم من موسكو
تشييد الأخيرة قاعدة عسكرية لها في السودان، لأن الحضور الروسي، واستنادًا إلى
التجربة السورية سيعني مزيد من التنافس الإقليمي والدولي على أرضية السودان.
وتأسيسًا على هذا الواقع والظروف المحيطة بالسودان، فإن
حالة التنافس الإقليمي والدولي يعوق بلا شك أي تقدم اقتصادي أو تنمية مستدامة فيه،
أو تحقيق معدلات مقبولة من الاستقرار، ومن ثم فإن تركيا عازمة على الاهتمام بأمن
البحر الأحمر والذي يدلل على بحثها عن
نفوذ إقليمي ودولي وتوجيه رسالة سياسية لدول الخليج والدول العربية بأنها موجودة
في الساحل الغربي للبحر الأحمر، بالتوازي مع ذلك فإن الدور التركي يعد مقدمة لصراع
نفوذ تحاول دول عربية وإقليمية ممارسته على السودان. ويخشى هؤلاء أن يتحول بلدهم
لساحة نزاع بين الدول العربية من جانب وقطر وتركيا من جانب آخر بما يجمعهم من
مصالح أيديولوجية وسياسية، والتي تعمل بعض الدول مثل السعودية والإمارات ومصر على
مواجهة هذا النفوذ المتنامي لما يمثله من تهديدات لأمنهم.
المراجع
1)
توقيع وثيقة تقاسم السلطة بين المجلس العسكري والمعارضة في السودان، على الرابط:
http://www.bbc.com/arabic/middleeast-49377914
2) السودان.. ما مصير
أموال تركيا؟، على الرابط:
https://cutt.us/caVfR
3) تركيا تلعب على الوتر
الديني بعد خسارة نفوذها في السودان، على الرابط:
https://cutt.us/uqkOd
4) التنافس الإقليمي على
السودان: دعم للسودانيين أم بسط للنفوذ؟، على الرابط: