تنامي الضغوط ... العدالة والتنمية التركي بين الانشقاقات الداخلية ومستقبل التواجد
تتعرض
تركيا للعديد من الأزمات التي طالت الكثير من القطاعات السياسية والاقتصادية
والعسكرية، إلا أنه مؤخرًا شهد حزب العدالة والتنمية الحاكم العديد من الأزمات
التي باتت تشكل عقبة كبيرة أمام مسار حركته الداخلية والخارجية، خاصة بعدما أعلن
العديد من الرموز السياسية الكبيرة في الحزب الانشقاق عنه وإنشاء حزب سياسي جديد،
وأعلن عن ذلك وزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو، وعلى باباجان نائب رئيس
الوزراء السابق، ووزير الاقتصاد الأسبق، وعبدالله جول الرئيس الحادي عشر للجمهورية التركية.
فبعدما
كان الحزب الحاكم متماسكًا إلا أنه يشهد في الفترة الحالية حالة من الانقسامات
التي سوف تنعكس بصورة كبيرة، وذلك بعدما تم الإعلان بأن هذه الانشقاقات جاءت على
خلفية الخلاف العميق حول المبادئ والقيم والأفكار التي بات يتبناها الحزب، وفق ما
أعلنه باباجان، ومن جانب أحمد داوود أوغلو فقد أعلن بأن الحزب استغل السلطة في تحقيق
المصالح الشخصية، فيما أعلن جول بأن قرار الاستقالة جاء على خلفية تفرد الرئيس
التركي الحالي رجب طيب أردوغان بالقرارات الداخلية والخارجية للحزب، وبالتالي فإن
هذه الانشقاقات ستؤثر بصورة كبيرة على مسار حركة الحزب الحالية والمستقبلية،
وبالتالي تمثل هذه الأحداث نمط للصراع بين نهج الفردانية المتجسدة برئيس الجمهورية
رجب طيب أردوغان، وبين الآخرين كل الآخرين داخل الحزب وداخل الحالة المؤيدة للحزب وداخل
الفئات المعارضة للحزب على المستوى الداخلي. (1)
مؤشرات التراجع
هناك
العديد من المؤشرات التي ظهرت بصورة واضحة في العديد من المتغيرات الداخلية
والخارجية والتي انعكست بصورة كبيرة على الحزب ولعل أبرز تلك المؤشرات: (2)
1) نتائج الانتخابات البلدية: أظهرت الانتخابات
البلدية المنعقدة مؤخرًا في 23 يونيو 2019، تراجعًا ملموسًا في شعبية العدالة
والتنمية، بعدما فازت المعارضة بقيادة حزب الشعب الجمهوري وتحالف الأمة بالعديد من
المدن الكبرى مثل أنقرة وأزمير وإسطنبول كبريات المدن التركية والتي تستحوذ على
أهمية سياسية واقتصادية كبيرة، والتي تؤشر على تراجع أهمية الحزب في العديد من المناطق
الجغرافية الهامة داخل تركيا وخاصة المدن الكبرى.
2) الضغوط الاقتصادية: تعاني تركيا من
العديد من الأزمات الاقتصادية التي تؤثر بصورة سلبية على شعبية حزب العدالة
والتنمية الحاكم، خاصة في ظل ارتفاع معدلات التضخم، وزيادة معدلات البطالة، وتراجع
الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة في ظل العقوبات الاقتصادية المحتملة عليها من
جانب الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.
3) الانقسامات الداخلية: يعاني حزب العدالة
والتنمية حالة من الانقسامات والتشرذم الداخلي، خاصة من جانب العديد من الرموز
السياسية مثل أحمد داوود أوغلو، وعبدالله جول، وعلي باباجان، وانعكاساتها على
مستقبل الحزب فيما يتعلق بتماسكه الداخلي أو فيما يتعلق بمسار علاقاته مع المعارضة،
أو في مساره الخارجي، الأمر الذي ظهر بصورة كبيرة مع نتائج ومؤشرات كافة
الاستحقاقات الانتخابية التي أجريت بعد يونيو 2016، وحادثة الانقلاب الفاشل.
4) مشكلة اللاجئين: ظهرت مشكلة
اللاجئين بعدما تزايدت الضغوط الشعبية التركية تجاه سياسة العدالة والتنمية الذي
حاول توظيف موجات التدفق العالية من جانب اللاجئين في ممارسة دور خارجي فاعل في
الأزمة السورية بالمشاركة في عمليات التسوية السياسية المستقبلية والمتعلقة في
المقام الأول بالمكون الكردي ومواجهته عسكريًا، أو من خلال استغلال اللاجئين للحصول
على التمويلات الأوروبية الخاصة بصناديق الدعم الموجهة لهم، وفي هذا الإطار شهدت
تركيا حالة من الاضطرابات الداخلية فيما يتعلق بوضعية اللاجئين الداخلية بفعل
الضغوط الاقتصادية التي تشهدها تركيا، ومع تزايد الضغوط الداخلية تم ترحيل العديد
من اللاجئين السوريين إلى إدلب وبعض المدن السورية.
5) ضغوط المعارضة: يحاول حزب العدالة
والتنمية الاستجابة للضغوط الشعبية والمعارضة له فيما يتعلق بالانتقادات السياسية
المتعلقة باعتقال المعارضين أو فساد بعض رموز الحزب والتي وصلت إلى اتهام بلال ابن
الرئيس التركي أردوغان بالتورط في قضايا فساد، ويحاول الحزب ضمن سلسلة من القرارات،
إعادة التماسك إلى صفوفه، والاستجابة لمطالب جزء كبير من قواعده وناخبيه المستاءة من
سياسة الحكومة في إدارة العديد من الملفات، وتوجيه رسالة إلى هذه المجموعات بأنه قد
استجاب لغضبها، وأدرك أهمية الاستماع لمطالبها بشكل أفضل خاصة ملف اللاجئين
السوريين.
وتمثل هذه القرارات من وجهة نظر المعارضة
انتصارًا إضافيًّا لهم، بعد انتصارهم في عدد من كبرى المدن التركية، وخاصة اسطنبول
وأنقرة وإزمير، وتأكيدًا على صواب رؤيتهم بخصوص مسار حركة العدالة والتنمية، ويمكن
أن تكون نتائج الانتخابات المحلية بمثابة نقطة الرجوع عن السياسات الأخيرة التي تبناها
حزب العدالة والتنمية لتحقيق أجندته الخاصة دون الاعتيار لباقي التوجهات السياسية التركية،
كما أنها على الجانب الآخر يمكن أن تكون نقطة تحول بالنسبة للقوى المعارضة التي حاولت
البناء على ما تم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الماضية، في مواجهة حزب العدالة
والتنمية ومشروعه السياسي، بالإضافة لذلك فإن الأمر سينعكس على معايير المسألة الخاصة
ببعض الأشخاص المنتمين إلى حزب أردوغان أو عائلته فيما يتعلق بقضايا الفساد التي طرحها
أوغلو في برنامجه الانتخابي المتعلق بمواجهة مثل هذه التجاوزات، ويمكن القول في النهاية
بأن خسارة بلدة إسطنبول قد تكون اللبنة الأولى لبداية تحول جذرية في المشهد السياسي
الداخلي والخارجي برمته، خاصة مع تصاعد الضغوط الاقتصادية من على تركيا في ظل حكومة
أردوغان من جانب الاتحاد الأوروبي على خلفية أزمة الغاز الأخيرة في شرق المتوسط.
6) مزاحمة أردوغان: شهدت الانتخابات
البلدية التي عُقدت في إسطنبول في 23 يونيو 2019، فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم
إمام أوغلو، والذي استطاع الوصول للشارع بشكل فشلت فيه أي شخصية معارضة أخرى، وهو ما
يستوجب من الحزب العمل على معالجة الملفات الإشكالية التي يمكن أن يستغلها أوغلو سياسيًا،
خاصة وأن بلدية إسطنبول تمثل من الأهمية السياسية والاقتصادية ما يمكن أن يؤثر على
حزب العدالة والتنمية، وكذلك لشخص أردوغان ذاته، الذي بدأ مساره السياسي كحاكم
للبلدية عام 1994، إلى أن وصل إلى رئاسة الجمهورية، وبالتالي فظهور شخصية كاريزمية
مثل أكرم إمام أوغلو ستؤثر على مساحة التأثير التي يتمتع بها الرئيس التركي الحالي
أردوغان.
7) التوترات
الأمريكية: كان للضغوط الأمريكية الأثر
السلبي على مسار الأوضاع الداخلية والخارجية التركية والتي انعكست على الحزب في
إجمالها، خاصة في الجوانب الاقتصادية على خلفية صفقة الصواريخ الروسية s-400، وفرض
عقوبات أمريكية على بعض القطاعات الاقتصادية التسليحية والدفاعية التركية.
8) التوترات الأوروبية: أعلنت الدول
الأوروبية فرض العقوبات الاقتصادية على تركيا على خلفية نشاطها التهديدي في منطقة
شرق المتوسط، خاصة تلك التي تتعرض لها أنقرة من جانب الاتحاد الأوروبي والتي وصلت حد
التهديد بفرض العقوبات الاقتصادية على خلفية سلوكها التصعيدي تجاه اليونان وقبرص على
الغاز في منطقة شرق المتوسط، وتكمن أهميتها كونها تأتي في ظل الضغوط الاقتصادية التي
تشهدها تركيا بالأساس، ومن ثم تتزايد نتائجها في التأثير على الداخل التركي ووضع
حزب العدالة والتنمية في وضعية سلبية.
مستقبل العدالة والتنمية
على الرغم
من النجاحات المتتابعة التي حققها حزب العدالة والتنمية التركي منذ عام 2002، إلا أن
الأزمات الأخيرة التي تعرضت لها تركيا من تراجع في الشعبية، وصعود نجم المعارضة التركية
والانقسامات الداخلية التي يشهدها الحزب ألقت الضوء من جديد حول مسار الحزب بل ومسار
مستقبل الإسلام السياسي، وجدلية الصعود الإسلامي الجديد في تركيا، فثمة دينامية خاصة
نتجت عن حالة تغيير النظام عقب تأسيس الجمهورية التركية، مرورًا بسياسات الحزب نحو
تغيير النظام السياسي من برلماني إلى نظام رئاسي، وتأميم الحياة السياسية التركية،
ووفق هذه السياسات هناك العديد من السيناريوهات المحتملة والتي يمكن أن تفرزها الفترة
القادمة من خلال العديد من المؤشرات التي تتنامي تداعياتها على مستقبل الحزب وتواجده،
على النحو التالي:
استمرار السيطرة والهيمنة
يمثل هذا
السيناريو امتدادًا لسيطرة حزب العدالة والتنمية الإسلامي على مفاصل الدولة وتوجهاتها
الداخلية والخارجية، خاصة بعد العديد من السياسات التي كانت وما زالت تؤسس لمثل هذه
السيطرة، وفي هذا الشأن، يذكر أن بعد ما سُمي بمحاولة الانقلاب الفاشل في 15 يوليو
2016، والتي تبعها العديد من السياسات التعسفية والاعتقال الممنهج للمعارضين وانتهاك
حقوق الإنسان، وتأميم المجال العام بما يعزز فرص توغلهم.
تراجع تدريجي أو جذري
وفق العديد
من المؤشرات الداخلية والخارجية التي تؤثر بصورة سلبية على مسار حركة الحزب، وخاصة
ارتفاع معدلات الضغوط الاقتصادية وفوز المعارضة التركية في الانتخابات البلدية المنعقدة
في 23 يونيو 2019، والانقسامات التي يشهدها الحزب خاصة من جانب العديد من الرموز السياسية،
التي تشكل مرحلة فاصلة في تداعياتها على مستقبل حزب العدالة والتنمية الحاكم بصورة
خاصة والحياة السياسية التركية الداخلية والخارجية بصورة عامة، الأمر الذي يلقي الضوء
من جديد على خريطة الأوضاع المستقبلية، في اتجاه تحقيق مزيد من النجاحات الميدانية
للأحزاب المعارضة في مواجهة حزب العدالة والتنمية الحاكم، والذي بدوره سينعكس على حركة
ومسار الحزب داخليًا وخارجيًا إلى حد قبوله بنتائج هذه المرحلة وما ستفرضه الوقائع
السياسية الجديدة، والتي ستنعكس بصورة كبيرة نحو القبول المشروط أو التغير الجذري في
سياسات العدالة والتنمية. (3)
تحالف حذر
من المحتمل
في ظل المعطيات الجديدة تحقيق تعاون حذر بين حزب العدالة والتنمية الحاكم، وبين الأحزاب
المعارضة وخاصة حزب الشعب الجمهوري فيما يتعلق بالتنسيق المشترك تجاه الملفات الخلافية
مثل تراجع مستوى الحريات، ومؤشرات الديموقراطية، وتأميم المجال العام، خاصة بعد السياسات
المتبعة من جانب الحزب التي أظهرت نيته الحقيقة تجاه تركيا وفق مشروعه السياسي والاقتصادي،
وعدم اعتماد مقاربات سياسية وعسكرية راديكالية من جانب الحزب الحاكم في التعامل مع
النشاطات الحزبية، وفتح المجال العام أمام حركة التفاعلات الداخلية، مما يفرض سياقات
جديدة يعيد من خلالها حزب العدالة والتنمية رؤيته للمشهد السياسي الداخلي والخارجي.
تقدم المعارضة
وفق ذلك الافتراض فمن الممكن أن تقوم المعارضة بالتحالف ضد أردوغان وحليفه الحركة القومية، خاصة بعد وجود العديد من المؤشرات التي أعقبت الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016، بداية من الاستفتاء في 17 أبريل 2017، والذي شهد تراجع نسبة التأييد لأردوغان. والتي مررت التعديلات بفارق ضئيل جدًا في نسبة التصويت، حيث بلغت نسبة المؤيدين للتعديلات الدستورية (51.4%)، وبين المصوتين ضد التعديل في الاستفتاء (48.6%)، ولعل الفارق الضئيل بين الأصوات المعارضة والمؤيدة للتعديلات الدستورية كشف النقاب عن تراجع مكانة حزب العدالة والتنمية، بالإضافة لذلك خسارته لأهم معقلين تصويتين هما إسطنبول وأنقرة واللتان كانتا يصوتان لصالح الحزب من قبل، كما جاء في الانتخابات البلدية الأخيرة. (4)
المراجع
1) ""تحد غير مسبوق
للرئيس التركي".. داوود أوغلو يتحدث عن "يأس واسع" في حزب أردوغان"،
روسيا اليوم، 1-8-2019، على الرابط: https://cutt.us/bMolP
2) محمد نورالدين،
انشقاقات جدية داخل «العدالة والتنمية»، على الرابط:
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/f575eae8-796c-4337-9405-540aea89a579
3) عمر علاء، "عقب خسارة
حزب «أردوغان».. هل يتغيَّر المشهد السياسي في تركيا؟"، المصري اليوم،
24-6-2019 ، على الرابط:
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1407504
4) " الاستفتاء التركي: نعم ولكن؟"، الجزيرة. نت، 9-6-2019. على الرابط: