المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
السيد يسين
السيد يسين

الثورة ... من الانصياع الكامل إلى التمرد المطلق

الإثنين 14/ديسمبر/2015 - 10:45 ص

التأمل العميق في سلوك الجماهير والنخب السياسية في العالم العربي يدفعنا إلى صَوغ قانون سياسي عام يمكن تلخيصه في عبارة مفردة هي: من الانصياع الكامل إلى التمرد المطلق!

ونعني بذلك على وجه التحديد أن سيادة النظم الشمولية والسلطوية في العالم العربي في حقبة ماقبل ثورات الربيع العربي، أدت –تحت ضغوط القهر السياسي ومخالفة قواعد حقوق الإنسان- إلى الانصياع الكامل للجماهير، على رغم أن بعض فصائل النخب السياسية في هذا البلد العربي أو ذاك كانت تحاول جاهدة فك الحصار المفروض على الشعوب. وقد اتخذت مساعيها هذه صورة التظاهرات المحدودة،سواء كانت مطلبيةً تنادي بالحقوق الاقتصادية المهدورة، أو سياسيةً تندد بالقمع وتطالب بالحرية وتطبيق القواعد الديموقراطية.

وقد ظنت النخب السياسية الحاكمة العربية في هذه الحقبة التاريخية وهماً، أنها استطاعت محاصرة حركة الشعوب محاصرة تامة، سواء بالقمع السياسي المباشر أو بتزييف الانتخابات التي تكفل بقاء الحكام المستبدين في كراسي الحكم إلى الأبد، بل وأسوأ من ذلك كله –كما حدث في مصر في عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك- الإعداد لتوريث الأبناء الحكم وكأن الجمهوريات التي تقوم على الانتخاب تحولت إلى ملكيات يتم فيها توريث الأبناء!

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه: كيف نصف حقبة ثورات الربيع العربي -كما أطلق عليها- مع أنها برزت في الواقع باعتبارها هبات جماهيرية أدت إلى تمرد شعبي واسع النطاق؟

قد نجد الإجابة على هذا السؤال عند الفيلسوف الفرنسي المعروف ألان باديو الذي أصدر كتاباً بالغ الأهمية عن ثورات الربيع العربي عنوانه «إعادة ولادة التاريخ» تحدث فيه عن أننا في الواقع نعيش عصر التمرد المطلق بل أشكاله، ويعني التمرد غير المباشر والتمرد المباشر ليس على السلطة السياسية فقط ولكن على رموز السلطة الاجتماعية والثقافية بشكل عام، سواء كانوا سياسيين محترفين تقليديين لا يعبرون إلا عن مصالح الطبقة الضيقة، أو رجال دين يتسمون بالجمود، أو مثقفين وضعوا ثقافتهم في خدمة السلطان!

ولو أردنا أن نتعقب الجذور التاريخية المعاصرة لظاهرة التمرد المطلق لوجدناها في ما أطلقنا عليه الثورة الكونية (انظر كتابنا «الوعي التاريخي والثورة الكونية»، القاهرة، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية- 1995).

وهذه الثورة ثلاثية الأبعاد، فهي أولاً ثورة سياسية تتمثل في الانتقال التاريخي من النظم الشمولية والسلطوية إلى الديموقراطية، وربما عبرت عن هذه الثورة مقالة عالم السياسة الأميركي الشهير هنتنغتون صاحب نظرية «صراع الحضارات» والتي عنوانها «الموجة الثالثة للديموقراطية». وهي ثانياً ثورة قيمية تتمثل في الانتقال من القيم المادية إلى القيم مابعد المادية، ونعني من القيم المتعلقة بالبقاء إلى القيم المعنوية، والتي تتعلق أساساً بالحفاظ على الكرامة الإنسانية وعودة الاهتمام بالقيم الروحية بعد طغيان النزعات المادية في المجتمعات الرأسمالية. والبعد الثالث للثورة الكونية هو الثورة المعرفية، ونعني الانتقال من قيم الحداثة التقليدية، التي تتمثل في الفردية والعقلانية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا والإيمان بأن التاريخ الإنساني يتقدم بصورة خطية، إلى قيم ما بعد الحداثة، التي تركز على سقوط الأيديولوجيات الجامدة، وتهتم بالجماعات الهامشية، وتنقد نقداً عنيفاً الإفلاس السياسي والعقلي والاقتصادي للرأسمالية المعاصرة.

 

وليس هناك من شك في أن الجموع العربية الهادرة التي انطلقت وقد رفعت راية التمرد على النظم العربية المستبدة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، تأثرت تأثراً مباشراً وغير مباشر بالثورات الثلاث السياسية والقيمية والمعرفية.

ويلف النظر هنا أن التمرد التونسي ضد نظام زين العابدين بن علي قام بعد اعتداء الشرطة التونسية على بائع متجول رأت الجماهير أنه اعتداء على الكرامة الإنسانية لا يمكن قبوله، وفي مصر كانت قضية خالد سعيد الذي اعتدت عليه الشرطة المصرية بالضرب المبرح حتى توفي هي الشعلة التي أوقدت الهبّة الشبابية الثورية في 25 يناير.

غير أننا لو اتخذنا ثورة 25 يناير نموذجاً للثورات الربيعية العربية، لاكتشفنا أن ملامح المجتمع المصري تغيرت تغيرات جوهرية بعد الثورة. وقد سبق لنا أن رسمنا خريطة معرفية لملامح المجتمع المصري بعد الثورة وحددناها بخمسة ملامح أساسية. الملمح الأول هو سقوط دور المثقف التقليدي وصعود دور الناشط السياسي. وقد أدى هذا التطور إلى بزوغ «سياسات الشارع» التي جعلت الجماهير المتمردة تفرض إرادتها السياسية.

والملمح الثاني هو الانتقال من التظاهرات التقليدية التي تقوم بها أعداد محدودة يمكن قوات الأمن فضها بسهولة، إلى الحشود الجماهيرية الهائلة التي يستعصي على أي قوات أمن مواجهتها، كما رأينا في مصر بعد اشتعال هبّة 25 يناير، من السقوط الكامل للشرطة، بالإضافة إلى أن هذه الحشود الجماهيرية الهائلة تميل إلى العنف.

والملمح الثالث هو التناقض بين الشرعية الثورية التي من خلالها تصنع الجماهير القرار السياسي والشرعية الديموقراطية التي تقوم أساساً على الانتخابات.

والملمح الرابع هو نسف التراتبية الاجتماعية في كل المجالات، فتمرّدَ العمال على المديرين، وثار الطلبة ضد أساتذتهم، ورفض الموظفون الانصياع لأوامر المديرين.

والواقع أن التمرد المطلق على السلطة في بلد مثل مصر بعد الثورة أدى إلى ظهور أنساق جديدة من القيم غطت على الأنساق القديمة، وأصبحت هي الموجِّهة لسلوك النخبة السياسية الجديدة -ونعني فئة الناشطين السياسيين- والجماهير في الوقت ذاته. وبناء على الملامح السياسية والاجتماعية والثقافية الجديدة لمجتمع ما بعد الثورة والتي اتسمت بالتمرد المطلق على السلطة بكل أنواعها في المجتمع المصري، اتسعت الفجوة بين الأجيال، وتحولت إلى صراع مكشوف بين الناشطين السياسيين والمثقفين التقليديين الذين أصبحوا لا يعتدّون بهم، ويؤكد ذلك أنهم أرادوا قيادة البلاد من الشارع بلا رؤية ولا تخطيط ومن دون أي نظرة مستقبلية.

 

وظهر شعار جديد غير مسبوق، وهو ضرورة «تمكين الشباب»، وقد ترجمه هؤلاء الناشطون السياسيون الجدد بمعنى ضرورة إقصاء الأجيال السابقة كافة، وأن يشغلوا هم وظائف الإدارة الكبرى.

ومن الغريب أن الحكومة المصرية، في فترة ما، خضعت للضغوط الشديدة التي مارسها هؤلاء النشطاء، وقررت تعيين مساعدي وزراء –هكذا دفعة واحدة- من الشباب، كما أن رئيس الوزراء في فترة ما عين معاوناً له من الشباب من دون تحديد المواصفات الضرورية المطلوبة لمن يشغل هذه الوظائف من مؤهلات وتدريب وخبرة.

وانتقلت عواصف التمرد إلى الجامعات، حين اختلّت العلاقة اختلالاً جسيماً بين الطلبة والأساتذة، وإلى الشركات والمصانع حيث اعتدى الموظفون والعمال على المديرين لإجبارهم على الإذعان لمطالبهم المالية، وسادت في المجتمع ظاهرة «انهيار القيم»، التي يطلق عليها في علم الاجتماع «الأنومي»، أي الافتقار إلى معايير واضحة لتحديد الفروق بين السلوك الاجتماعي المشروع وغير المشروع. وهكذا اختلطت الثورة بالفوضى وأصبحت مهمة إعادة القيم لتحكم السلوك الاجتماعي مهمة بالغة الصعوبة.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟